سيقال الكثير بالطبع عن دور «الأب الخرف» في فيلم «انفصال نادر عن سيمين» للمخرج الإيراني أصغر فرهادي الفائز أخيراً بأوسكار افضل فيلم اجنبي في هوليوود. وربما يذهب البعض إلى تحميله أكثر مما ينبغي في هذه الدراما الاجتماعية المتناغمة في شكل مدهش حد صنع إيقاع خاص بها، والتي نجح فرهادي في إطلاقها عبر كاميرا محمولة في معظم الوقت أراد من خلالها عكس جو متوتر، من غير أن يفقده ذلك»متعة» التلصص على مصائر أبطاله التي يحتاجها لهذا الفيلم أكثر من فيلمه السابق ( «عن أيلي» ). وإذا كان المخرج قد عودنا على الانتهاء ب «خبطة مسرحية» في نهاية كل فيلم له، فإنه في فيلمه الجديد هذا لا يحيد عن دربه، بل يجدد من طريقته في تنفيذها هنا، ويثريها من خلال تعويد ممثليه على الظفر بنهايات غير متوقعة. تقضي المحكمة بإمكانية انفصال نادر عن سيمين، ولكن العائق الذي يمنع سيمين من تحقيق حلمها بالسفر خارج البلاد بعد أن قضت أكثر من ستة شهور في مطاردة التأشيرة لكليهما، هو أن نادر يرفض مرافقتها، بذريعة أن أباه مصاب بمرض الزهايمر وليس هناك من يقوم بخدمته من بعده. وبالطبع لن يمكن سيمين من المغادرة، لأنها لن تستطيع فعل ذلك من دون رفقة ابنتها (ترمة ) التي تحتاج إلى موافقة الأب للسفر باعتبار أنها ماتزال قاصراً. تغادر سيمين بيت الزوجية بعد أن تؤمن راعية للأب الخرف تحل محلها، وسوف نكتشف أن هذه تجيء من ريف بعيد بصحبة ابنتها الصغيرة ومن غير علم زوجها المتبطل الذي يرزح تحت عبء ديون كثيرة ومهدد بالسجن في كل لحظة من قبل دائنيه. الأب محور الفيلم هنا، بالكاد يمكنه التكلم. إنه يرطن ببعض الكلمات المتعلقة ببحثه عن الصحيفة اليومية، ولكننا بتنا نعرف أنه يفتقد إلى سيمين، فيذكر اسمها أكثر من مرة ويكون الاسم آخر الكلمات التي سوف نسمعها منه قبل أن تتركه الراعية في البيت مقيداً إلى سريره وتذهب لقضاء عمل لها سيظهر من بعد في السياق أنها ذهبت لمراجعة طبيبة نسائية لأمر خاص بها. شيطان التفاصيل سوف تتعقد الأمور من حول نادر وفي بيته، الذي يشكل هنا المحور الآخر للرمز - الأب. ففي التفاصيل تكمن «شيطنة» أصغر فرهادي، وهنا يكمن سر هذه الدراما الاجتماعية. والحال انه لولا قدرة المخرج على الإمساك بها ببراعة، لوقع الفيلم في فخ ميلودرامي مطول هو الذي كان يحتاج في بعض مشاهده إلى قص هنا وهناك، حيث يبدو الإيقاع مربكاً قليلاً، ولكن فرهادي ينجح في ترتيب تفاصيله، من دون أن يغرق المشاهد في هذا الفخ الذي كان سيقود الفيلم نحو خطر «التعليب» التلفزيوني، وبخاصة أن فرهادي نفسه قدم إلى السينما من العوالم التلفزيونية، وهذا يبدو واضحاً من خلال تصميم كادراته التي تبدو ضيقة أحياناً، وفي حاجة لفضاء تتحرك فيه، وكما أسلفنا فإن إمساكه بالتفاصيل واللعب بها عن طريق مراكمتها سردياً دفعا بالفيلم لأن يصبح مصدراً غنياً للرموز والاستعارات التي تصلح لأن تكون صورة مقربة لواقع إيران المعاصر. فهنا بالضبط ، ومع كل نأمة، سوف تند عن راعية الأب الخرف سندرك أكثر فأكثر أننا نقف بالفعل على هذه الصورة اما ما ينقص فهو قوة الإفصاح عنها مباشرة. إلا أن السينما هنا تأبى مثل هذه التقديم، وتصر على مراوغة من نوع مختلف برع أصغر فرهادي في تقديمها لنا في أكثر من فيلم، وهنا يكمن سر نجاح فيلم «انفصال نادر عن سيمين» في أكثر من موقعة سينمائية، وآخرها بالطبع نيله جائزة الغولدن غلوب لأفضل فيلم أجنبي قبل الأوسكار. الفيلم هو صورة شعاعية لما يحدث في بلد المخرج. ليس ثمة ما يفضي إلى مثل هذا القول إلا قدرة الفيلم على الإمساك بتفاصيل هذه الصورة، فالراعية التي لن يمكنها أن تقوم ب «تنظيف» الأب إلا بعد استشارة فقهية، سوف تدرك أن مهمتها لن تكون سهلة هنا. والأب الذي يذهب من تلقاء نفسه ومن غير وعي إلى البحث عن جريدته الصباحية المفضلة التي تربطه بالماضي الذي يمثله، سوف يكون سبباً في انعطافة درامية جديدة هنا، لأن سيارة سوف تقوم بصدم الراعية بدل صدمه هو، وهو ما سيزيد من تعقيد الأوضاع. وسوف يكتشف نادر حين يعود مع ابنته ترمة في وقت آخر أن الراعية ليست موجودة في البيت، وأن الأب يحتضر بعد أن وقع من سريره وهو موثق اليد إليه، وقد فقد جهاز التنفس الاصطناعي. يقوم نادر بطرد الراعية بدفعها على درج المنزل أمام جيرانه، وتجهض المرأة كما سنعلم حين تستدعي سيمين نادر لتخبره بفعلته. وسيقتاد الجميع إلى المحكمة، بعد أن يتهجم زوج الراعية على نادر إذ يكتشف أن زوجته كانت تعمل من وراء ظهره في بيت نادر، بعد أن يكون هذا الأخير قد عرض عليه العمل عنده راعياً لأبيه بعد أن تتذرع الراعية في وقت سابق بصعوبة العمل عنده، وتعرض عليه الاتصال بزوجها العاطل من العمل، والمكتئب، والمهدد بالحبس لكثرة ديونه. الخروج من الميلودراما الحبكة الدرامية التي أرادها أصغر فرهادي لفيلمه هي ما سمح له بالخروج من متاهة ميلودرامية مؤكدة، فهو سيكذب الجميع أمام القاضي. نادر سيكذب حين يقول إنه لم يكن يعرف أن الراعية كانت حامل في الشهر الرابع، ولو أنه كان يعرف لما طردها. والراعية تكذب بدورها، لأن سبب الإجهاض هو السيارة التي صدمتها في وقت سابق. وحتى معلمة ترمة في المدرسة بادرت إلى الكذب حين شهدت في المحكمة وقالت إن حوارها مع الراعية حول حملها لم يسمعه نادر، أو هو لم يحفل به أساساً. ويقوم نادر برفع دعوى على الراعية أيضاً، وهو مهدد بالحبس بتهمة التسبب بأذية والده الخرف، ولن تبخل سيمين بدفع الكفالة لخروج نادر من الحجز، وسوف تقوم بعمل تسوية مع زوج الراعية تتلخص بدفع خمسة عشر مليون تومان كتعويض عن فقده جنين زوجته بدل أربعين مليون تومان. ولكن الراعية سوف تفاجئنا حين ترفض أن تحلف اليمين على القرآن، بعد أن استشارت نفس الجهة الفقيهة فأفتت هذه بأن المال الذي ستأخذه من نادر وسيمين سيكون حراماً عليها وسط حيرة الزوج الذي يصاب بنوبة هستيرية جراء رفض زوجته القيام بالخطوة الأخيرة قبل نيله المال الذي سيحرره من مطاردة الدائنين. لقد نجح أصغر فرهادي في هذا الفيلم من حيث لم يكن متوقعاً، وتمكن من مراوغة فكرة ثمينة تقوم على أن الكذب الدائم يمكنه أن يخلق بشراً من غير ضمائر أيضاً. وفيما الجميع يغرق في هذه الفكرة يتوجب على ترمة أن تخيّر في النهاية بين بقائها مع أمها أو أبيها، وهي تطلب أن تجيب بعيداً عنهما، لأنها بالتأكيد سوف تعود إلى الفكرة الأساسية التي دفعت بها سيمين إلى الواجهة في المشهد الأول من الفيلم: لا الأب الخرف يمكنه فعل شيء عبر التحديق بماضيه غير المستعاد، ولن يكون بوسع نادر أن يقدم له شيئاً إن بقي إلى جانبه، فهو لا يتذكر حتى اسمه، فيما يكرر على مسامعنا اسم سيمين قبل أن يفقد القدرة على النطق نهائياً، ولا القاضي الذي يكيد لسيمين لأنها قالت إن مستقبل ابنتها ترمة لن يكون في مطحنة الكذب أبداً التي يعيش الجميع فيها من دون استثناء.