هل يمكن أن يتوخى المستثمرون في بلدان الخليج الحذر خلال السنوات المقبلة ويعزفوا عن الولوج في مشاريع غير مجدية؟ يبرز هذا السؤال بعدما أقدم كثيرون منهم على توظيف أموال طائلة في مشاريع عديدة، داخل بلدان المنطقة وخارجها، من دون التيقن من جدواها الاقتصادية. ومثلت المشاريع العقارية أهمَّ مكونات هذه الاستثمارات، فالعديد من هذه المشاريع العقارية أصبحت عبئاً على المستثمرين ناهيك عن آثارها الصعبة على الاقتصاد الكلي، إذ أقيمت مبانٍ كمكاتب ومساكن استثمارية وفنادق ومنتجعات سياحية، بالإضافة إلى الجزر الاصطناعية والمدن والقرى الصغيرة المستحدثة، لكن المستثمرين فيها لم يتأكدوا من حقيقة الطلب على وحداتها. وثمة دراسة حديثة قيمة لأحد الباحثين الجادين في البحرين، هو عمر الشهابي، توضح أن ثمة مشاريع قيد التنفيذ في عدد من بلدان الخليج بكلفة إجمالية تساوي 2.1 تريليون دولار. واعتمدَت إستراتيجية هذه الاستثمارات على أساس بيع الوحدات في مقابل حصول مقتنيها على الإقامة في البلد. ولا شك في أن هذا الافتراض غير واقعي، فالمقيمون العاملون في بلدان المنطقة لا يملكون القدرات المالية التي تمكنهم من شراء وحدات سكنية تتراوح أسعارها بين 500 ألف ومليون دولار أو أكثر. لذلك، فإن أي أجنبي يقرر اقتناء وحدات في هذه المشاريع العقارية لا بد أن يكون ثرياً ومضارباً يهدف إلى الربح الرأسمالي بعد ارتفاع الأسعار، ولا بد أن يستهدف مشترين من مواطني بلدان المنطقة. ثم هل يعقل أن يشتري الأوروبيون والأميركيون أو حتى اليابانيون والصينيون، وحدات سكنية في بلدان الخليج بأسعار مرتفعة في حين يمكن اقتناء أجمل المساكن في أحسن المواقع في بلدانهم وبأسعار أدنى؟ كان للأزمة الاقتصادية العالمية وتأثيراتها في الأوضاع الاقتصادية المحلية وانكشاف مصارف على هذه المشاريع، الفضل في وقف هذه المشاريع، أو تعطيلها على الأقل، فالمشاريع المذكورة تمثل أقصى درجات الهدر للموارد الاقتصادية، فهي تبدد أموال المستثمرين وتزيد من انكشاف المصارف والمؤسسات التمويلية على مشاريع غير مدرة للدخل من خلال أدوات التمويل، وتبدد كذلك الأموال العامة في مشاريع البنية التحتية والمرافق ناهيك عن التعدي على البيئة، إذ إن عدداً من هذه المشاريع كان سيقام، أو أقيم، على أراضٍ مستحدثة من عمليات ردم البحر، وذلك يمثل تخريباً بيناً للبيئة البحرية. لا بد من الإقرار بأن هذه المشاريع العقارية تمثل فلسفة استثمارية غير واقعية ومتهورة وكان لا بد من لجمها. وتبين أن أزمة الاستثمار في الخليج تكمن في توافر أموال سائلة تبحث عن فرص استثمار وتفتقر إلى إدارة حكيمة توليها الاهتمام والحذر المطلوبين. ولو وظف المستثمرون وبتوجيهات من الإدارات الحكومية، هذه الأموال في مشاريع سكن خاص للمواطنين ومن مختلف النوعيات والفئات السعرية لتمكنوا من المساهمة في معالجة مشكلة الانتظار للحصول على سكن من قبل المواطنين. لكن الفلسفة الريعية التي تسود بلدان المنطقة دفعت الحكومات إلى تحمل مسؤولية تأمين السكن لأسر المواطنين على رغم ضعف القدرات التنفيذية في الإدارات الحكومية. وفي بلدان خليجية مثل الكويت حرِم القطاع الخاص من الاستثمار، في بناء مساكن خاصة وتسويقها للمواطنين. وتمثل هذه السياسات الريعية اختلالاً في مفاهيم الرعاية التي توليها الدولة للمواطنين، فالمطلوب أن يتمكن كل مسؤول أسرة من اقتناء السكن المناسب لاحتياجاته والحصول على التمويل الملائم من النظام المصرفي والمالي، وقد تساهم الدولة في تأمين هذا التمويل أو جزء منه بأسعار فوائد مناسبة. لكن أن تتحمل الدولة الكلفة في شكل تام وتعطل دور القطاع الخاص، يعني هدراً للإمكانات المتاحة وتعطيلاً للإنجاز. ومهما يكن من أمر، فالمطلوب هو إعادة النظر في مفاهيم الاستثمار العقاري الذي أضحى أهم قنوات الاستثمار للشركات والأفراد في القطاع الخاص في الخليج وتعزيز عمليات البحث والتقصي وإجراء الدراسات الاقتصادية قبل الإقدام على إقامة هذه المشاريع. وغني عن البيان أن توظيف الأموال في المشاريع العقارية ليس القناة الوحيدة التي حملت أعباءً وأخطاراً للمستثمرين لكن هناك مشاريع أخرى وتوظيفات متنوعة في الداخل والخارج أهدرت كثيراً من الأموال. من بين تلك المشاريع مشاريع الصناعات التحويلية التي تعتمد على مواد خام مستوردة ويد عاملة وافدة وأسواقاً يشوبها غموض، وأمّنت الحكومات خدمات المرافق وأتاحت للمستثمرين الحصول على أراض شاسعة لتلك الصناعات بالإضافة إلى تمويلات ميسرة من مصارف متخصصة. وتبين أن كثيراً من هذه الصناعات التحويلية لم تستوفِ المعايير الاقتصادية المناسبة لنجاحها ما عطلها وجعلها عاجزة عن أداء التزامات التمويل من أقساط وفوائد ناهيك عن تحقيق أرباح صافية. يضاف إلى ذلك أن العديد من هذه الصناعات لا تملك الميزات النسبية في بلدانها لتجعلها قادرة على المنافسة في الأسواق التصديرية أو في الأسواق المحلية والإقليمية. هناك كثير مما يمكن أن يذكر في شأن خلل الاستثمار في هذه المنطقة من العالم ما يعني أن الأمر بات محيراً، إذ إن تكرار المعضلات والفشل الاستثماري يتطلب دراسات جادة تؤدي إلى ترشيد القرار. ولا بد أن تعمل الحكومات، على المستويات المحلية والإقليمية، وحفز المستثمرين لتوظيف الأموال في المشاريع التنموية المجدية وتعزيز كفاءة الاستفادة من الإمكانات المالية المتوافرة لدى القطاع الخاص. * كاتب متخصص في الشؤون الاقتصادية - الكويت