حينما أعلن (الرواد) أو الآباء المؤسسون كما صار يسميهم الأميركيون، استقلال الولايات الأميركية الثلاث عشرة عن الإمبراطورية البريطانية في عام 1776، كانت الديموقراطية الأميركية بكراً واتصفت بصفات شبه مثالية كأول، وحالياً، أقدم، ديموقراطية، بعد عهد فلاسفة اليونان. كانت الديموقراطية الأميركية تعتمد على المؤتمرات والاجتماعات في كل بلدة أو إقليم لاختيار من يمثلونه في كل المناصب المنتخبة بما في ذلك أعضاء الكونغرس بمجلسيه من نواب وشيوخ. وفي كل أربع سنوات أيضاً يتم اختيار من يتم ترشيحه لخوض الانتخابات الرئاسية. وبعد نهاية حرب الاستقلال في عام 1788، كانت ولايتا ماساتشوستس وفيرجينيا تشملان أراضي ولايات أخرى استقلت عنهما في ما بعد، ولذلك كانتا أهم وأكبر الولايات الثلاث عشرة. وبعد أن اجتمع ممثلون عن كل الولايات (تم اختيارهم من طريق المجالس المحلية) اقترح كبير ممثلي ولاية ماساتشوستس جون آدامز ترشيح قائد قوات الثورة الأميركية، الجنرال جورج واشنطن، رئيساً للجمهورية الأميركية الحديثة. وبنفس الوسيلة تقريباً تم اختيار جميع الرؤساء الخمسة عشر الذين تبعوه، حتى تم تأسيس الحزب الديموقراطي في أوائل القرن التاسع عشر والجمهوري في منتصفه. وفي عام 1860 اجتمع ممثلون للحزبين، كل على حدة، فرشح الديموقراطيون وليام دوغلاس ورشح الجمهوريون ابراهام لنكولن، الرئيس السادس عشر بعد فوزه في الانتخابات الرئاسية. وبإيجاز استمرت الديموقراطية الأميركية على ما يقارب الوجه الأمثل الذي تصوره الرواد المؤسسون حتى جاءت الأحزاب والتنظيمات الحزبية بعد الحرب الأميركية الأهلية وبعد اغتيال الرئيس العظيم لنكولن وما تبع تأسيسها تدريجياً وبصورة متسارعة من مشوهات لطخت الديموقراطية الأميركية وأساءت إلى سمعتها على نطاق واسع. دخل المال السياسة الأميركية فأفسدها لأن الانتماء الحزبي أمر اسمي نسبي بسبب غياب الفوارق الأيديولوجية الكبرى بين الحزبين، فصار كل من يسعى لتولي منصب منتخب رهينة لمن يدعمه مالياً وتنظيمياً. فالمرشح ينتخب لذاته، أكثر من انتمائه الحزبي، ومساعدة الحزب الذي ينتمي إليه ضرورية ولكنها لا تكفي. ولذلك يكون المرشح الأميركي أضعف من المرشح في الدول البرلمانية التي يفوز أو يسقط في انتخاباتها الحزب، ويكون الانتماء للحزب أهم بكثير من الاعتبارات الفردية. وفي عام 1952، وفي محاولة لإدخال إصلاح اختيار المرشحين لخوض الانتخابات على كل المستويات، بعيداً من صالات اجتماعات قادة الأحزاب، انتشر ما يُسمى في أميركا بالانتخابات الأولية أو الترشيحية لاختيار من يرشحه كل من الحزبين لخوض الانتخابات على مستوى الرئاسة والكونغرس ومحافظي الولايات ورؤساء البلديات في المدن الكبرى. وكانت أول ولاية تجرى فيها انتخابات الترشيح للرئاسة من كلا الحزبين ولاية نيوهامشير الصغيرة في الشمال الشرقي. ثم تبعتها ولاية آيوا في الوسط وصار ما يسمونه «الهيئات» الانتخابية في آيوا هي التي تتولى عن عامة سكان الولاية اختيار مرشحي الرئاسة. وبعد ولايتي آيوا و نيوهامشير تأتي ولاية كارولينا الجنوبية. وبعدها ولاية فلوريدا. وفي شباط (فبراير) وأحياناً آذار (مارس) تأتي انتخابات «الثلثاء الأعظم». ففي كل أربع سنوات (*1) تجري انتخابات رئاسية، ومنذ 1984 صار كل من الحزبين يختار يوم ثلثاء في الشهر الثاني أو الثالث وفق تقدير اللجان المركزية للحزبين وصار هذا اليوم يعرف ب «الثلثاء الأعظم». واليوم الثلثاء الموافق 6/2/2012 والذي تم تحديده واختياره قبل 4 سنوات، سَيُجري الحزب الجمهوري انتخابات تمهيدية في عشر ولايات أميركية لاختيار 424 مُمَثِّلاً لهذه الولايات يدلون بأصواتهم في المؤتمر الوطني العام للحزب الذي سيعقد في 27/8/2012 لمن يفضلون من المرشحين لخوض الانتخابات الرئاسية ضد الرئيس أوباما في الانتخابات الرئاسية التي لابد أن تكون في أول يوم ثلثاء من الشهر الحادي عشر من عام 2012، والذي يصادف أيضاً في هذا العام اليوم السادس من الشهر الحادي عشر. ويحتاج المرشح الجمهوري للفوز بترشيح حزبه إلى 1144 صوتاً. ولذلك فإن ما تمثله الولايات العشر في يوم الثلثاء الأعظم هو نحو 37 في المئة من الأصوات المطلوبة للفوز بالترشح. ويبقى السؤال، لماذا تُجرى كل الانتخابات الرئاسية ومعظم الانتخابات الأولية المهمة دوماً يوم الثلثاء؟ بدأ هذا التقليد منذ ما يزيد على 200 سنة حينما كان معظم سكان الولايات الأميركية يعملون في قطاع الزراعة، وكان الانتقال بالنسبة إلى من لهم علاقة بالزراعة، وهم غالبية السكان، من أماكن سكنهم إلى المراكز الانتخابية يستغرق أكثر من يوم. ولم تكن هناك وسيلة للسفر في مناطق أميركا الواسعة إلا الدواب. وفي أغلب الأحيان إذا سافر الفلاح يوم الجمعة لن يصل إلى المراكز الانتخابية إلا يوم السبت. وإن بدأ رحلة العودة صباح الأحد فلا يصل إلى مكان سكنه إلا الاثنين. وبما أن الأحد يوم إجازة وعبادة فقد تعذر اختيار الاثنين يوماً للانتخابات، ولذلك تم التوافق على اختيار يوم الثلثاء لكل الانتخابات. وبعد عام 1952، صار يوم الثلثاء أيضاً هو يوم أهم الانتخابات التمهيدية أو الأولية. ومؤخراً، طالب الكثيرون بإجراء الانتخابات في أيام نهاية الأسبوع، أي يومي السبت والأحد، لإعطاء فرصة للعاملين في أيام الأسبوع بخاصة من ذوي الدخل المحدود، لتمكينهم من التصويت في وقت فراغهم، ما دامت الحاجة التي دعت إلى اختيار يوم الثلثاء قد انتهت منذ انتشار القطار والسيارة في أوائل القرن الماضي. والأرجح أنه لن يتم التغيير قريباً. ليس لأن الجمهوريين ضد أي تغيير فحسب، وإنما أيضاً لأن غالبية من يراد إعطاؤهم الفرصة للتصويت في نهاية الأسبوع من الأقليات وطلاب الجامعات. وأغلبية الأقليات وأغلبية طلاب الجامعات يمنحون أصواتهم للديموقراطيين. * أكاديمي سعودي (*1) في هذا العام لا يحتاج الديموقراطيون إلى انتخابات أولية لاختيار مرشح لخوض انتخابات الرئاسة لأن الرئيس الحالي ديموقراطي وهناك شبه إجماع عليه لخوض الانتخابات لفترة 4 سنوات إضافية.