التطورات السياسية العربية، المتوالية منذ عام، باتت تسمح بمقاربة أكثر موضوعية ل «بلدان المنشأ»، حيث لا يمكن، بمقاييس عدة، الحديث عن خواتيم أحداث، بمقدار ما هو متاح الكلام على مبتدئها. لقد اعتنق كثيرون نظرية الختام، على معنى أن الوضع في كل بلد عربي «ثائر»، سلك وجهته المحددة النهائية. قارب أولئك أحياناً مقولة «الحتمية التاريخية»، من دون كل مقدماتها النظرية المعروفة. فريق آخر قال ببداية العصف السياسي، واطمأن إلى تعريف البداية، على معنى التشكيك في قدرة الأوضاع الراكدة، على بلوغ مرحلة «الموج العالي». لامس هذا الفريق وضعية «العدمية السياسية»، التي تتجلى غالباً في موقف انتظاري تطهري، يكتفي أصحابه من الحياة، بمراقبة سيلانها. لقد انجلت حصيلة الأشهر الغنية المنصرمة، عن حقائق واقعية عنيدة، لا فائدة من نكرانها، من جانب النخبة النظرية، على اختلاف مشاربها، وعليه، فإن الانتساب إلى الوقائع الجديدة، بالنظر أو بالعمل، يوجب الوقوف أمام هذه الحقائق، وتقليب صفحاتها العيانية، قبل مباشرة الخلاصات الاستشرافية، التي ترجح هذا المسار السياسي أو ذاك. لقد انجلى المشهد الأولي، في بلدان الانتفاضات السياسية، عن أرجحية سياسية واجتماعية، للأحزاب والحركات ذات المشارب الإسلامية. الأمر ذاته مرجح لأن يكون السائد في الأقطار، الناهض منها حالياً، مثل سورية، أو المائج على ترقب حذر، في البلدان العربية الباقية. يدعو هذا المشهد إلى تبيّن الصعيد السياسي الحقيقي، الذي كان مكبوتاً بفعل آلة القمع السلطوية، حيث كانت «الحزبية الإسلامية»، في موقع المناوئة للحكم السابق، أو في وضع المشاركة فيه، حيث الحزبية ذاتها، مستفيدة من غض طرف السلطة، ومن بعض مغانمها. للأمرين، المناوأة والمشاركة، أمثلتهما في أكثر من بلد عربي، ولهما مبرراتهما ونظرياتهما، من جانب طرفي المعادلة الاجتماعية. لقد اختزن المعطى السياسي، الذي انتفض الجمهور الواسع ضد إلغائه، على معاني الحرية والكرامة، وإثبات الذات الفاعلة وانتزاعها من براثن السلطات التي برعت في تغييبها. جسّدت السلطات الحاكمة في كل بلد المعاني الضدية التي أعطاها المنتفضون للسياق السياسي الذي يطمحون إليه، لذلك كان الشعار الأول، والحاسم، هو إسقاط رأس السلطة، لأنه الرأس الضد، الذي يقود المعادلة الإلغائية. التوحد حول الشعار، لا يعني وحدة القائلين به، لجهة منطلقاتهم الفكرية والسياسية، فالقوى التي تحركت توحدت بالظلم والقهر، وهي غير موحدة حول شكل الحكم الكفيل بإلغائهما، هذا ناهيك عن الوسائل العملية الكفيلة بذلك. لقد نضح كل وعاء وطني بما فيه، فانبعثت العصبية القبلية في ليبيا واليمن مثلاً، وشكلت أساس التحلق حول شعار تغيير السلطة، أي الدخول إلى ردهاتها وتوليها، على حساب عصبيات أخرى. المجتمع المصري، الذي يتميز عن غيره من «المجتمعات العربية»، كان صوت «المدني» فيه عالياً عند نقطة انطلاق العملية السياسية، لكن ثماره خفتت إبّان موسم القطاف الانتخابي، وهذا كان أمراً مفهوماً، لأن الحركة «المدنية» الناشئة، لا تمتلك الرسوخ الكافي، الذي يمكنها من مقارعة الحزبيات الأخرى، بخاصة الإسلامية منها، التي تستند إلى معادلة مركبة، يتداخل فيها الموروث والمستجد، وما تجود به اللوحة الاجتماعية المصرية. تمييز الحالة المصرية، لا يعني تلاشي المدني هنا أو هناك، بل يعني وضع هذا المدني ضمن الحيز المتاح له، من دون إضافات، وعدم رفعه إلى رتبة القيادة السياسية لهذه الانتفاضة أو تلك، لأن في الأمر تضخيماً ضاراً، لا يستند إلى أسس واقعية مادية. تأسيساً على فرضية الواقع الحقيقي ل «القوى المدنية»، يصح القول إن هذه القوى مدعوة إلى العمل من أجل تثبيت مكتسباتها، حيث هذه الأخيرة موجودة، والسعي إلى إدخال تعديلات متوالية على التوازنات المستجدة، بعد الانتفاضات، من أجل انتزاع بعض المطالب، حيث المدنية منحّاة أو مشوهة أو ملغاة أو مبتورة. الطريق إلى ذلك مرسوم بخطوط السياسات العامة، والإقبال على الانخراط فيها والدعوة إليها، وتوسيع القادة الاجتماعية المنادية بها. سياسة كهذه، قد تكون مخالفة للمسالك التي اعتمدتها التيارات المدنية حتى اليوم، والتي بدت متوقفة عند حدود «الحقوقي» والاكتفاء به، من دون الطموح إلى أفق سياسي، والسعي إليه. تعلو اليوم أصوات «العلمانيين»، هنا وهناك، في وقفات احتجاج مهمة، لكن هذه على أهميتها، لن تبدل في واقع الأمر شيئاً، إذا التزمت جادّة «مناشدة» السلطات الجديدة، فقط، ولم تتجاوزها إلى قراءة جديدة للوضع الناشئ، وإلى خطط عملية جديدة، تتناسب والجديد من التطورات. إن المبادرة السريعة، في ميدان السياسة، كما في ميدان الاجتماع، تمليها حقيقة أن ما حصّله بعض الاجتماع العربي (تونس مثلاً)، من ميزات ديموقراطية محدودة، لم تتحول إلى قيم اجتماعية راسخة، يدافع عنها المجتمع ككل، بغض النظر عن الأحزاب التي يؤول إليها الحكم. بكلام مقارن، لسنا أمام حالة أوروبية غربية عامة، حيث باتت الديموقراطية ومقولاتها، جزءاً من الوعي المجتمعي العام، الذي لا يمكن اليسار أن يتجاهله، ولا يتاح لليمين التنكر له، بل ينزل الجميع عند خلاصاته، طوعاً، أو امتثالاً لحقائق المعطيات المجتمعية. إن الإفادة من كسر سلاسل الديكتاتورية في كل وطن على حدة، يسمح بمباشرة التدخل الفاعل في تكوين النسيج الاجتماعي الجديد، الذي ستنبثق عنه السلطات. هذا يقتضي عدم الوقوف، رهبة وخشية، أمام التوازنات وهوية الغلبة السياسية فيها، مثلما يفترض عدم «الحنين» إلى زمان، ظنّ فيه العلمانيون ومن ماثلهم، أنه زمان مقارعتهم للأنظمة القائمة، بينما كان بعضهم، في حقيقة الأمر، بعضاً من لزوميات السلطات القمعية... التجميلية. * كاتب لبناني