شكَّل العام 2011 منعطفاً مهماً في موقع الشباب ودورهم في العالم العربي. انطلقت الانتفاضات على أكتافهم، وأطلقت شرارات حراكهم موجة من التغيير في العالم العربي، لا ينتقص من حجمها ومستقبلها بعضُ العثرات التي تعانيها. فرضت الانتفاضات على الباحثين في العلوم الانسانية، سوسيولوجيا وعلم نفس وسياسة، وضع قضية الشباب على مشرح البحث، خصوصاً وأن الدور الإيجابي الذي اضطلعت به هذه الفئة كان مفاجئاً للجميع، معاكساً لأدب سياسي واجتماعي ساد لفترة طويلة من الزمن عن دور سلبي للشباب العربي قياساً على حجم المعضلات التي يعانيها. هذا الدور المستجد للشباب يفرض اليوم على كل العاملين في المجال المعرفي تسليط الضوء على واقع هذه الفئة، انطلاقاً من الواقع الراهن الذي تعيشه، والآفاق المستقبلية المتوقعة لفعله. في هذا السياق، أتى الملف الذي خصصته المجلة الفصلية «الآخر» لخريف العام 2011، تحت عنوان «شهادات». حوى الملف شهادة لثلاثة وعشرين كاتباً، جميعهم من سوريا، تعود ولاداتهم الى سبعينات وثمانينات القرن الماضي، ممن يجري تصنيفهم في خانة الشباب. يربط خيط بين الشهادات جميعها، يتصل بتعبيرها عن الهموم الحياتية التي تواجهها هذه الفئة، سواء منها ما تعلق بالواقع الشخصي ام بما يجري في حياتهم العملية. اذا كان الغالب فيها استحضار المراحل التي مرت بها هذه الفئة منذ بداية تفتحها على الحياة، من علاقات غرامية ومشاكل في الدراسة وصعوبات في العيش... الا ان بعضها يطرح مسائل تتعلق بالوجود في الحياة الراهنة، وقضية الموت ، من دون ان يغيب المستقبل وما يخبئه لكل واحد من هؤلاء الشباب. تغلب لدى الجميع تقريباً نظرة نقدية للمجتمع الذي لم يورثهم سوى شعارات رومانسية لا علاقة لها بالواقع ومصاعبه وهمومه، «فالشباب الذي أحياه الآن هو الشباب الحقيقي بعد أن عرفت كيف أتعلم من حماقاتي الأولى، وعنادي الاستثنائي.. سخريتي من تلك الشعارات التي تربينا عليها: الشباب امل المستقبل، بناة الاوطان، ذخيرة الايام القادمة...» على ما يرد في شهادة لعبادة تقلا بعنوان «شباب التهمه القلق». على رغم ان معظم الشهادات لا تتوسل الحديث عن الانتفاضات الجارية، وهي ملاحظة ملفتة لشهادات في بلد يشهد انتفاضة مندلعة تخترق جميع مناحي الحياة السورية ومجتمعها، إلاّ أن إشارات معبّرة ترد في هذه الشهادات تؤشر الى الواقع الذي يعيشون وسطه. تشير شهادات عدة الى حال الإحباط واليأس التي يعيشها الشباب من جراء الهزائم المتوالية التي منيت بها المجتمعات العربية، «اجيال هزمتها المجتمعات والتاريخ، الثقافة والفنون، الانظمة والحكومات، العقائد والايديولوجيات، الانظمة التعليمية، والمنظمات المحلية والدولية» على ما يرد في شهادة لتغريد عيسى. مقابل ذلك، تعكس شهادات الكثير من الاصرار على الخروج من هذا الواقع، من قبيل ما يشير اليه الكاتب نبيل محمد تحت عنوان «لا، والذات: حقيقة كاتب شاب» حيث يقول: «على اعتبار ان الإحباط فعل يومي وليد الذات والآخر، فإن كل ما هو جديد قد يكون افضل... تمسكنا بالمجهول هو جزء من حيوية الحياة والفوضى الممتعة في كثير من الاحيان. فلا ضير من هذا المجهول ما دمنا قادرين حتى الآن على أن نبدأ... إن ما أُريد إسقاطه هو جزء كبير من الذاكرة، وجملة من العلاقات التي تمنعني من رؤية ما حولي». شكلت ثورة الاتصالات، خصوصاً منها شبكات التواصل الاجتماعي، مجالاً وجد فيه الشباب متنفساً ومخرجاً من العزلة، فتواصل بعضهم مع بعض في السماء الافتراضية، وكسر كثيرون منهم حاجز الخوف الذي قد تولده العلاقات المباشرة للشباب، خصوصاً عندما يتعلق الامر بالعلاقة بين الجنسين. لكن ثورة الاتصالات هذه لعبت دوراً مهماً، ولا تزال في مجمل الحراك العربي الدائر اليوم، وهو امر تمكّن الشباب من التقاط أهمية هذه الثورة وتوظيفها في كسر حاجز الخوف، ليس الذاتي فقط، بل كسر هيبة انظمة الاستبداد وتحويل الرقابة على الكلمة التي أتقنتها اجهزة الامن لعقود ضد الحريات، تحويلها الى مهزلة وميدان سخرية من الحكام وأجهزتهم. «لقد انتج المركز العالمي للثقافة السمع بصرية الاقمار الصناعية، وأرسل صواريخه لاكتشاف عوالم جديدة في الفضاء... للمرة الأولى وبواسطة ثورة الاتصالات يصبح العالم ملحقاً بمركز واحد. يمتلك المركز الجديد إمكانية تحويل الاوطان الى اسواق» على ما تقول تغريد قاسم تحت عنوان «الشباب من الحشد الى الاكشن». وكما يضيف سامر عبد الله علاوي تحت عنوان «الإنترنت مندمجاً مع المسجد»، فيقول: «في الثورات العربية الراهنة، أصبح الإنترنت مندمجاً مع المسجد اساساً لهذه الثورة، فجرى دمج التكنولوجيا الغربية بالمعمار الاسلامي». يمكن القارئ ان يلمح في معظم الشهادات قلقاً واضحاً يعيشه هذا الشباب من المستقبل. معظمهم من خريجي الجامعات، ومن الذين امكن لهم تحصيل نصيب وافر من المعرفة والعلوم، لكن الواقع السياسي والاقتصادي والاجتماعي في بلدهم يقدم لهم كل يوم مزيداً من الاحباط. يشعرون انهم مرميّون على الهامش في كل الامور، ويرون بأم العين حجم الفساد والزبونية في الوظائف، واعتماد مقاربات في العمل لا تمت الى الكفاءة العلمية والمعرفية. تقتلهم البطالة، وتقض مضجعهم كل يوم، خصوصاً ان الجواب هو في الهجرة عن اوطانهم طلباً للقمة العيش. تصدمهم السياسات الاقتصادية والتنموية التي لا تأخذ في الاعتبار حاجات مجمل الفئات الشعبية بمقدار ما تصب نتائجها في جيوب حفنة قلية من ناهبي البلد وسارقي ثرواته. لا شك في ان الشهادات تسلط الضوء على مزيد من التحديات امام هذا الجيل، تبدأ هذه التحديات من فهم الشباب لأنفسهم أولاً، ومن مواجهة واقعهم السياسي والاجتماعي ومدى قدرتهم على الانفكاك عن العلاقات العصبوية التي تهيمن على البنى في كل قطر عربي، سواء أكانت طائفية ام قبلية وعشائرية ام اثنية... نحو التحدي الاكبر في الانتماء الى هوية وطنية قائمة على المواطنية، وقادرة على تمثل قيم الاعتراف بالآخر، والقبول بالتعددية.