منذ انطلاقة الثورة الليبية، وفي عزّ احتدامها، قلما استطاع جمهور الأصدقاء على «فايسبوك»، من مختلف الجنسيات، لجم تضاحكهم على خطابات معمّر القذافي وظهوراته السوريالية، وإن رافقت التعليقات الساخرة عبارات تضامن حارّ وشجب صادق لوحشيّة صاحب «زنقة زنقة» و «جرذان مقملين»... حتى خرج صديق ليبي بتعليق حلّ كالصدمة. لم يقل الشاب جديداً، بل البداهة التي نسيها معظمنا، وربما لذلك فاجأنا. الشاب المصراتي المقيم في لندن، حيث يقطن وعائلته منذ هرب من آلة البطش قبل سنوات، كتب بالإنكليزية ما معناه: أنتم تضحكون ونحن أيضاً، لكن ليس هناك ما يدعو إلى البكاء أكثر من تلقّي رد الفعل الأول لكل من أخبره بأنني ليبي، يضحك كأنه سمع نكتة، ويتندّر تلقائياً بقصص ذلك البهلوان الذي بسببه لا أحد يأخذ الليبيين على محمل الجد! شعب بكامله، إذاً، خطفه القذافي، أكثر من أربعين عاماً، وحبسه في علبة جنونه. كلنا كان مدركاً هذا «التفصيل»، وكلنا كاد ينسى معناه لولا كلمة المصراتي. وبعد الثورة، بدأنا نكتشف الكثير الذي لا نعرفه عن ليبيا وأهلها، ومعنا مَن كان ملمّاً بتاريخ البلاد، بل حتى من زارها مراراً. للاستعادة هذه مغزى يتجاوز الإنجازات والانزلاقات المنظورة للثورة الليبية التي تحتفل بعيدها الأول، وللربيع العربي عموماً. تتسع الثورات العربية، ما تحقّق منها وما لا يزال يغلي، لحماسة وأسئلة وتأملات كثيرة، وللنقد طبعاً. فالمُطاح به كبير، هائل. لكن التغيير لا يطاول أنظمة سياسية وحكّاماً فحسب، كما لا ينحصر في يقظة الشارع أو تهاوي جدار الخوف. ثمة قوالب تُكسر أيضاً، وهذه تستحق التفاتة. التنميط، الذي هيمن طويلاً على الشعب/الفرد التونسي والمصري والليبي والسوري واليمني، يتصدّع بدوره. تنميط لا يستوطن مخيلة «الآخر» وحده – علماً أن هذا الآخر ليس بالضرورة مختلفاً أو مُغرضاً. فالضحية قد تغذّي تنميطها أحياناً، فتعيش الدور... لتعيش. القوالب «البشرية» الجاهزة الواردة أدناه مرفوضة طبعاً، ولا فضيلة في استذكارها، إذ فيها من العنصرية والتعميم ما يهين إنسانية الإنسان. إلا أنها للأسف لطالما كانت متداولة عبر الشعبي والعادي، والأصح أنها كانت أكثر حضوراً قبل موسم الثورات، وهذا بالضبط ما يستدعي وقفة. قوالب من نوع: المصري العادي مُحابٍ للسلطة بطبعه (أي سلطة، من رب العمل إلى رجل الأمن). المصري الميسور لا يهتم بالسياسة والأرجح أنه منخرط في دائرة فسادها، فيما الأفقر متسوّل دائم أمام السائح الأجنبي و«الباشا» المحلي، وهو إما نصّاب أو حشّاش أو متحرّش، «الإخواني» همايوني، السلفي إرهابي، والمسيَّس حالمٌ أبله. أما المؤسسة العسكرية المصرية فخطٌّ عاطفي ووطني أحمر. التونسي؟ علماني مؤكد... «منذ متى هناك إسلاميون تونسيون؟»، سألت صديقة يفترض أنها قارئة ومتابِعة. والسوري... إحذره، فهو مخبر لحساب الأجهزة، حتى يثبت العكس. السوري غالباً مجرم أو ضحية، محدود المعارف والذكاء، لولا استثناء النخب. أما اليمني، فابن القات وصديق «جنبيّته»، لا إنتاجية ولا مَدَنية. ناهيك عن يمنيّة بلا صوت، وإن فازت فبجائزة أفضل زي تراثي. وأخيراً، الليبي الذي لا ملامح له، كأنه ليس موجوداً، ولا حتى في بلاده التي تُذكر أكثر ما تُذكر كملجأ للعمّال أو صائدي الثروات من الدول المجاورة، وهذا أقسى أنواع التنميط. الوصم في العادة من شيم «الآخر»، المستعمِر التاريخي المتغطرس، الذي يقابله المستعمَر بدوره بخرافاته عنه. عانى سود الولاياتالمتحدة من الوصم الذي لحق أيضاً بالإرلنديين تحت حكم الإنكليز، وبالأفارقة تحت الحكم الفرنسي، وطبعاً العرب في قديم تاريخهم وجديده... حتى حلّ «ربيع عربي» بات يلهم صفحات «احتلوا وول ستريت» الالكترونية، حيث تظهر صور ميادين التحرير في مصر وتونس خصوصاً، مرفقة بعبارات تستنهض في الأميركيين مثل هذه الهمّة. والحال أن وسائل الإعلام، التقليدية والبديلة، أظهرت وجوهاً أخرى، غير تلك التي كانت تطلّ من ثغرات ثقافاتها اليومية السابقة على ثوراتها. هويّات ما سوف يكون، المشتهى والمناضَل من أجله. المصري رأى سورياً يَشتُم المخابرات والحزب الأوحد ويقتلع تمثال الحاكم. واليمني شاهد ملايين الشباب المصريين من حَملَة «الآي باد» ينظّفون ميدان تحريرهم، فقراؤهم يجابهون «الباشا» وحتى «المشير»، ويخرج من بينهم «سلفيو كوستا». اكتشف السوري يمنيّاً مثابراً على تظاهرات معظمها سلمي، وعلى تلفزيونه امرأة يمنيّة تتسلّم «نوبل»، وأخرى تتحدّى بمقالة «سنة أولى ثورة». لفت الانتباه إسلاميون تونسيون يفوزون في انتخابات حرّة، وهو أمر قد لا يفاجئ أحداً في مصر أو ليبيا أو سورية لكنه خَبَر في تونس بورقيبة. ثم رأى الجميع ليبيين وليبيات... يكفي أنهم رأوهم. وضعت الثورات العربية مجتمعاتها، للمرة الأولى منذ زمن سحيق، في مواجهة ذلك التنميط الممنهج الذي خرج أخيراً على كليشيه «الرجل الأبيض» أو الغرب الامبريالي. لأنظمة دول «الاستقلال» دور أساس في تركيب متأنٍّ لقوالب كانت من ضرورات استمرارها، وها هي تسقط أو تتأرجح بعدما جثمت على صدور شعوبها مثل قَدَر. وهي نفسها الأنظمة التي لا تتواضع نتائج «انتخابها» عن التسعين في المئة، وترفدها وقاحة الادعاء بأنها قيادات وطنية تسيّر جمهوريات. بهذا المعنى، فإن تلك الأنظمة «احتلّت» أوطانها، واكتسبت تالياً هيمنة المُنمِّط. التنميط إطار لتكريس المعنى وأمانه، محاولة لتثبيت الذات الموصومة من أجل فهمهما «بعمق»، والتشديد على هذا الفهم دون غيره باعتباره الحقيقة الوحيدة، وبالتالي اطمئنان المستبدّ إلى تفوّقه وإحكام السيطرة. غير أن المقموع، حين يُرجع النظرة إلى مستعمِره، يعطّل سلاحه، وقد يفجعه. فمن خلال «الهيب هوب» مثلاً، استخدم الأفارقة الأميركيون الصور «المنحطّة» ذاتها التي ألصقها بهم البيض، أي صور الذوات الميّالة إلى الإجرام، الإناث والذكور المحكومين بشهواتهم، العدائيين، الرثّين، الخ... بتلك الصور والمعاني، في كلمات الأغاني وشرائطها المصورة، عزّزوا الاحتجاج والدحض. وها هم الثوار العرب الجدد يقلبون كلمة «مندسّ» على الأجهزة - مبتكرتها، لتصبح فخر الصفحات الإلكترونية، و«المندس» و«المندسّة» ألقاب حركية للناشطين السياسيين، مادة سخرية مقاوِمة. قد يُقبل إسلاميون على كسر صورتهم النمطية بمفعول رجعي، من خارج «الديموقراطية الجديدة»، كما في الدعوى القضائية المضحكة على عادل إمام لمحاسبته على أفلامه التي انتقدهم فيها. ثم يخرج في تونس «عالِم» يطالب بالسماح بتعدّد الزوجات وختان الإناث، أملاً على الأرجح في جعل العلماني التونسي أثراً من الماضي. لكن هذه التفرّعات، التي لقيت مناهضة لا بأس بها في مجتمعاتها، لا تنفي الظاهرة الصحيّة عموماً... لأن القوالب سجون.