اليوم السبت، يختتم الرئيس الأميركي باراك أوباما إحدى أهم جولاته المتعددة الأهداف التي شملت روسيا وايطاليا وغانا. ومع أن المحادثات التي أجراها في موسكو حول أزمة الشرق الأوسط، لم تكن في أهمية المفاوضات المتعلقة بنشر الدرع المضادة للصواريخ في أوروبا أو توسيع حلف شمال الأطلسي، إلا أنها لاقت الاهتمام الكافي خلال إثارة برنامج إيران النووي. ويستدل من توقيت لقاء وزير الأمن الاسرائيلي ايهود باراك والمبعوث الأميركي الخاص للشرق الأوسط جورج ميتشل في لندن يوم الاثنين الماضي، أن أوباما كان يتوقع تحقيق بعض التقدم في قضية المطلب الأميركي بشأن تجميد الاستيطان. كما كان ينتظر من ميتشل ابلاغه قبول الوزير الاسرائيلي تجميد بناء 2500 وحدة سكنية كمدخل لتبديد الشكوك قبل عقد مؤتمر سلام دولي شبيه بمؤتمر مدريد. وفي هذا السياق تبدو الزيارة التي قام بها الرئيس شمعون بيريز للقاهرة مطلع هذا الاسبوع، وكأنها مبرمجة على نحو يصب في مصلحة المحادثات التي كان يجريها الوزير باراك مع ميتشل في لندن. في القاهرة كرر بيريز موقف رئيس الحكومة نتانياهو، معتبراً أن اسرائيل ستكون «دولة يهودية» مقابل «دولة عربية» للفلسطينيين. وزعم أن اسرائيل لا تصادر أراضي جديدة ولا تقيم مستوطنات جديدة، وانما تعمل على تطوير ما هو قائم لسد حاجات المستوطنين. وقد استخدم ايهود باراك هذا المنطق مع جورج ميتشل لاقناعه بأن آلاف الدونمات المصادرة في الضفة الغربية ليست أكثر من مستوطنات أنشئت لاحتياجات أمنية محدودة، وأن القوانين الدولية تمنع على المحتل حق الملكية. ومن هذه الثغرة القانونية تسللت اسرائيل لمصادرة خمسين ألف دونم بين سنتي 1967 و1979 بذريعة الحاجات العسكرية الأمنية. وفي ضوء هذه الحجة، أقامت سلسلة مستوطنات أهمها «كريات أربع» و «بيت ايل». ولما قررت محكمة العدل العليا منع ألون موريه من مصادرة آلاف الدونمات حول قرية «روجيب»، اجتهدت هذه المحكمة لتوصي بوقف المصادرات ما عدا الأراضي الخاصة بالدولة. وعلى الفور اكتشف المهاجرون سنة 1979 أن هناك 700 ألف دونم مسجلة باسم حكومة الأردن. وبين سنتي 1980 - 1984 أعلنت اسرائيل مصادرة 800 ألف دونم اضافي من الضفة الغربية. وهكذا أصبحت تملك 25 في المئة من مساحة الضفة. عندما طلب الرئيس أوباما من نتانياهو وقف عمليات الاستيطان، كتب وزير الدفاع السابق موشيه أرنز في الصحف الأميركية ينتقده بقسوة، لأنه تجاهل استفزازات إيران وسورية وكوريا الشمالية. وادعى ارنز أنه «من حق اليهود أن يعيشوا في يهودا والسامرة كمبدأ أساسي غير قابل للتفاوض». وكان من الطبيعي أن يعترض على الاستعانة بالحقوق التوراتية - التاريخية عدد من الأكاديميين اليهود. واستند بعضهم الى شهادة الصهيوني المتعصب زئيف جابوتنسكي، مؤسس حركة طرد العرب من فلسطين، واعترافه أمام «لجنة بيل» الرسمية، بأن اسرائيل وجدت لإنقاذ يهود أوروبا من الإبادة الجماعية. وقد سجل جدعون شمعوني هذه الشهادة في «الايديولوجيا الصهيونية». وحذّر آخرون من التمادي في الاعتماد على الحجج التوراتية، لأن منطق الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد يصبح هذا المنطق مقبولاً في موضوع طرد اليهود من أوروبا. عندما اجتمع نتانياهو بسفراء الاتحاد الأوروبي، سأله أحدهم ما إذا كان يقبل بنشر جنود تابعين للحلف الأطلسي بهدف الفصل بين اسرائيل والدولة الفلسطينية المزمع انشاؤها. وأجاب على هذا السؤال بعبارة كتبها الفيلسوف الألماني اليهودي عامونئيل كانط، ومفادها: ان الأنظمة المعتمدة على إرادة الناخبين (الديموقراطية) لا تميل الى شن الحروب. ثم أكمل يقول: المحرقة حدثت لأن قادة أوروبا لم يدرسوا هذه العبارة (علماً بأن هتلر وصل الى الحكم عن طريق انتخابات ديموقراطية). وأضاف نتانياهو يقول: أنا أريد ضمانات دولية ولا أريد جنوداً. لأنني أجهل أي نظام سيؤسس في الدولة المتاخمة... فلسطين. لذلك اقترح إقامة دولة فلسطينية منزوعة السلاح بحدود موقتة. ومن المؤكد أن الرئيس بيريز يشاطرني هذا الرأي! وزير الدفاع السويدي كارل بلديت أعلن تأييده لرفض الفلسطينيين قبول مثل هذه «الدولة» الهزيلة. وقال باسم بلاده التي تترأس حالياً دورة الاتحاد الأوروبي، ان الأممالمتحدة لم تعرف خلال تاريخها دولة في شكل الدولة التي وصفها نتانياهو. أي دولة منزوعة السلاح من دون جيش، ومن دون حقوق لعقد معاهدات مع دول أخرى، ومن دون سيطرة على المعابر الحدودية وعلى المجال الجوي... هذه الدولة ليس لها مثيل في أي مكان في العالم. صحيح أن كوستاريكا ليس لها جيش، ولكنها هي التي اختارت هذا الحل كي تتفادى حدوث انقلابات عسكرية مثلما جرى حولها. الوزير باراك دافع عن موقف نتانياهو بالقول إن اتفاقية السلام المصرية - الاسرائيلية، تقيد الفريقين بعدد القوات المسموح نشرها على الحدود، كما تحدد كمية السلاح أيضاً. في مواجهة هذه العقد المستعصية، كررت السلطة الفلسطينية تمسكها بإزالة كل المستوطنات وإعادة تقسيم القدس والاعتراف بحق العودة والرجوع الى خطوط الرابع من حزيران (يونيو) 1967. وقد رفضت «حماس» من جانبها عودة الوصاية المصرية أو الأردنية، ولو لفترة انتقالية خلال بلورة الاتفاقية السياسية، لئلا تصبح الوصاية أمراً مطلوباً في حال حدوث خلافات داخلية. في قمة موسكو، حاول الرئيس الأميركي أوباما توسيع المفاوضات مع رئيس الوزراء فلاديمير بوتين بحيث تشمل قضية الشرق الأوسط. وذكر أن بوتين وافق على المساعدة في ايجاد الحل، ولكنه لم يدخل في التفاصيل خشية تعطيل المبادرة التي طرحها منذ مدة. أي المبادرة التي حملها قبل شهرين تقريباً وزير الخارجية سيرغي لافروف وتنقل بها بين رام الله وتل أبيب ودمشق وبيروت. وقد أعربت اسرائيل عن استيائها من لقاء لافروف خالد مشعل في دمشق، خصوصاً أن روسيا هي الدولة الوحيدة من الوسطاء الدوليين التي تتعامل مع حركة «حماس». ويرى بوتين أن العلاقات الوطيدة مع «حماس» تمنح موسكو وضعاً مميزاً في الوساطة بين الطرفين المتنازعين، وأن استدراج «حماس» الى طاولة المفاوضات، يسهل مهمة الرئيس محمود عباس. وقد وصف لافروف أحاديثه مع خالد مشعل، بأنها كانت ايجابية ومتزنة وواقعية، ووصفه بأنه شخص يتحلى بالمسؤولية الوطنية تجاه غزةوفلسطين والقضايا العربية عموماً. والمعروف أن الدول الغربية ترفض محاورة «حماس» لكونها ترفض الاعتراف باسرائيل، علماً بأنها فازت في الانتخابات البرلمانية سنة 2006. الوزير لافروف يؤكد أن اسرائيل ستحضر المؤتمر الذي تشرف موسكو على إعداده خلال الخريف المقبل. وهو مقتنع بأن حضور «حماس» لن يمنع اسرائيل من المشاركة. وربما ساعده على تكوين هذه القناعة وزير خارجية اسرائيل افيغدور ليبرلمان الذي زار موسكو قبل مدة قصيرة واجتمع ببوتين على حدة. وقد رحب به رئيس وزراء روسيا بطريقة استثنائية طالباً منه التحدث باللغة الروسية التي يتقنها. والمعروف أن ليبرمان غادر مولدافيا سنة 1970 وأنشأ حزب «اسرائيل بيتنا» كنواة لجمع اليهود من أصول روسية. وبما أن عددهم يتجاوز المليون ونصف مليون نسمة، فقد رأى فيه بوتين إمكانية تأسيس «لوبي روسي» يمنع «اللوبي الأميركي» من احتكار الحلول أو التفرد بإدارة مفاوضات السلام. ويقول المراسلون في موسكو إن غاية بوتين من تأجيل موضوع البحث في قضية الشرق الأوسط، ترمي الى اعطاء ليبرمان الوقت الكافي لاستمالة بعض الوزراء الى موقف داعم للمبادرة الروسية. أي للمبادرة التي تجمع مختلف الاضداد من أجل قيام دولة فلسطينية موحدة. عقب رجوع الوزير باراك الى اسرائيل من لندن، قدم تقريراً بشأن اللقاء مع جورج ميتشل، الى المجموعة الأمنية المؤلفة من ستة أعضاء. وادعى أنه توصل الى تفاهم بشأن تجميد البناء في المستوطنات، وأن الاتفاق سيتم في اطار مفاوضات اقليمية شاملة تنخرط فيها سورية ولبنان أيضاً. ياسر عبد ربه، أمين سر اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية، وصف تقرير باراك بأنه مناورة لتجنب المواجهة مع واشنطن بشأن حجم الاستيطان (اكمال بناء 2500 وحدة سكنية) على أمل نسف الجهد الأميركي في هذا الصدد. وقد رشح عن محادثات ميتشل - باراك ما يؤكد شكوك عبد ربه، لأن العواصم العربية أبلغت المبعوث الأميركي الخاص وجهة نظرها بأن تجميد الاستيطان يجب أن يسبق خطوات التطبيع. ورد باراك على هذا الشرط بأن حكومته تربط أعمال البناء في المستوطنات بحجم مبادرات النيات الحسنة من جانب الدول العربية. ويرى عمرو موسى، أمين عام الجامعة العربية، في هذا النقاش العقيم جدلاً سفسطائياً يهدف الى إضاعة الوقت بالبحث عمن جاء قبل الآخر: البيضة أم الدجاجة؟ والغاية من كل هذا تمرير السنوات الأربع من ولاية أوباما، وإشعاره بأنه لا يختلف عمن سبقه من رؤساء الولاياتالمتحدة، إلا بالأسلوب فقط، خصوصاً أن الرئيس الأميركي قدم فكرة الاسراع بإيجاد حل للنزاع العربي - الاسرائيلي، كجزء من استراتيجية أمنية لضمان سلامة المجتمع الأميركي، وإسقاط حجة إيران بامتلاك قنابل نووية. ولكن نتانياهو رفض الأخذ بهذا السلم من الأولويات، وطالب واشنطن بضرورة منع ايران من امتلاك السلاح النووي، قبل تقديم ما وصفه بالتنازلات، أي بقبول «دويلة» فلسطينية تدور في فلك اسرائيل. ويرى المراقبون أن اسرائيل في الوقت الحالي، تطرح خيارات عدة أهمها: إظهار جورج ميتشل بأنه غير منصف وعادل في اقتراحاته من أجل التشكيك بدوره عند العرب والاسرائيليين معاً. علماً بأن ميتشل وضع المستوطنات في تقريره سنة 2001، بأنها العائق الأول تجاه عملية السلام. وأوصى في ذلك التقرير بأن التقيد بالقرارات الدولية هو الشرط الأساسي لتحريك عملية سلام اقليمي شامل. في الأدبيات الروسية قصة عنوانها «البارون والكلب» تذكر باعتماد اليهود على عنصر الزمن في حل مشاكلهم مع سائر الأمم. تقول الرواية إن باروناً روسياً كان يقف أمام بوابة قصره وهو يراقب خروج اليهود الذين استقدمهم في الماضي للاشراف على مزرعته. وقد أمر بطردهم عقب صدور كتاب «حكماء صهيون» مطلع القرن الماضي، أسوة بأصدقائه الأثرياء. وكان حاخام تلك المزرعة آخر شخص يغادر مصطحباً نجله الصغير، وقبل أن يودع معلمه البارون، نظر الى الكلب الذي يقف الى جانبه، وسأله عما إذا كان يتكلم الروسية. واستغرب البارون هذا السؤال، وعاجله بسؤال استيضاحي: وهل تتكلم الكلاب لغة البشر؟ قال الحاخام بلهجة جادة: أنا دربت كلبي على النطق ببعض الكلمات العبرية، فإذا به يحفظها بعد خمس سنوات، ولكنه للأسف، مات. وعلى الفور أوقفه البارون وطلب منه الا يغادر المزرعة مع أفراد عائلته، ثم اومأ إليه بأن يأخذ الكلب لتدريبه على اتقان اللغة الروسية. ولكنه هدّده بالويل والثبور وعظائم الأمور إذا عجز عن تأدية المهمة. وفي طريق العودة سأل نجل الحاخام والده عن صحة السبب الذي لفقه للبارون، وعن المخرج المقنع الذي سيقدمه في المستقبل من أجل الحفاظ على رأسه. وأجابه الحاخام مقهقهاً: بعد خمس سنوات..، إما أن يموت البارون، أو يموت الكلب، أو يسمح لليهود بالعودة الى روسيا! * كاتب وصحافي لبناني.