تكررت ظاهرة انتصار «الإخوان المسلمون» في الانتخابات التي أعقبت الانتفاضات العربية، حدث هذا تكرارا وكأنه لازمة طبيعية، أو كأن «الديموقراطية» في العالم العربي، تجد ترجمتها البديهية، في صعود الإسلام السياسي. مثل هذا الاعتقاد، قد يكون عزز قناعات هذه الحركات، فازدادت وثوقاً ب «مصداقيتها» وجماهيريتها. ذلك بينما لم تجد القوى الأخرى، غير الإسلامية سياسياً، التفسير المناسب لمثل هذه الظاهرة التي تعيد تعريف الديموقراطية، فتحيي السؤال الجوهري عن: الجانب السياسي الذي يترجم في الممارسة الديموقراطية عربياً إلى «تقنيات»، بينما يحال الجانب الاجتماعي إلى الوعي الموروث. الآن يمكن تلمس الفارق بين هذين المستويين. ومع استبعاد الحماسة، أو المبالغة التي تكرر الحديث عن «الديموقراطية» من دون تفصيل، وبغض النظر عن المحاجّة بخصوص المجريات الواقعية، يصح السؤال: هل يتدخل الوعي «الشعبي»، في التجسيدات العملية للممارسة الديموقراطية؟ في حالة العراق مثلاً، تتحول «الديموقراطية» إلى ممارسة تنتج «دكتاتورية انتخابية»، تعمم أنماطاً من الممارسات المضادة للديموقراطية، ولأسس وجود «الدولة المدنية». فالفساد، والتوكؤ على العامل الطائفي، والمحاصصات الشالة لعمل الدولة، ليس فقط لا تفضي إلى...، بل تناقض تماماً الهدف من الخيار الديموقراطي، الذي هو تعزيز لفعالية الدول، عبر اتساع المشاركة التي تؤمنها الحرية، فتعظّم من الإسهام الفردي في تسريع ديناميتها. عليه فافتراض قيام نظام ديموقراطي، بناء على فعل قوى ما قبل الدولة، فرضية مستحيلة، ولكن حين تكون الدول القائمة هشة، لا جذور لها، ومركبة من أعلى، ولم تنبثق من نسيج الوعي الشعبي، فان سقوطها أو سحقها، كما حصل في العراق مع «الدولة الحديثة»، بطبعتها الاستبدادية البعثية، مثلاً، يؤدي كما هو حاصل منذ 2003، إلى طغيان قوى ومكونات ما قبل الدولة، أي الطائفة والعشيرة وغيرهما... هكذا نكون انتقلنا ليس إلى «دولة المجتمع المدني»، بل الأهلي، بوعيه المسيطر بما هو «الإسلام»، أو تشظياته وطبعاته، آخذين في الاعتبار تمايزات المواضع والكيانات العربية، حيث مصر ليست كاليمن، ولا تونس كالعراق أو سورية. ومع حضور العام المشترك، وهو قوي بين هذه البلدان بلا شك، تبقى افتراقات جدية بينها، في السياقات والمسارات، وفي كيفيات تجلي أو تحقق السلطة والأفكار والسياسة، مع اشتراكها جميعها بخاصية الوقوع في حضن المجتمع الأهلي وأحكامه. فلا تتهاوى هياكل أو أشكال «الدولة الحديثة»، التي هي إعادة صياغة بأساليب ونظم الحداثة، للماضي، حتى يحتل المجتمع الأهلي المشهد، فينتصر حزبه الذي هو عادة حزب إسلام سياسي، يتطور حسب القياس الذي تفرضه، أو تستوجبه المتغيرات، في العالم، مع ترجمتها الممكنة في المجال التاريخي الخاص. في البلدان الأفريقية العربية، حيث المجتمع الأهلي موحد على وجه العموم اعتقادياً، يصبح المجتمع الأهلي في الغالب إسلامياً، ويعطي صوته لحزب الإسلام الحديث، بينما تدخل في المشرق والخليج العربي، على المشهد، حالة أخرى، تلعب فيها الطوائف والعشيرة... الخ الدور المقرر. وعلى هذا الأساس تتكرر الظواهر، بحيث نصير أمام ما يشبه القاعدة، وإذا «الديموقراطية في العالم العربي أهلية أي إسلامية طوائفية»، والدولة التي تنشأ في هذه الحالة، هي «دولة المجتمع الأهلي»، وليس الدولة المدنية. هل الحصيلة التي تستقر أمامنا بالتواتر، كمآل تمخضت عنها الانتفاضات، محبطة وتقلل من الثقة بالمستقبل؟ نعم بلا شك، إلا أنها تحفز الفكر، وتأخذه إلى التدقيق في الآليات «الموضوعية»، التي إليها يعود الجانب المؤكد الفعل من عمليات التغيير الكبرى في التاريخ. فالعالم العربي لم تحصل فيه ثورة برجوازية وصناعية، أوجبت تغييراً شاملاً في شكل التنظيم السياسي للمجتمع، وانتجت مقابلها منظومة من أفكار «التنوير»، غيرت الإنسان ذهنياً، بالتوافق مع المتغير الموضوعي. هكذا تطورت الثورة الديموقراطية، في الغرب الأوروبي، وقامت الدولة المدنية. وما دامت ثقافة المجتمع الأهلي لم تتغير، والمحفزات الموضوعية لا وجود لها، والثورة الفكرية لم تحدث، فلا مهرب من الارتكاز للمتحقق، و «الممكن». فهل الإسلام السياسي، يا ترى، قادر بالفعل على أن يكون هو بالذات، حامل عملية التغيير؟ هنالك اليوم إشارات جديدة تقول، بأن إسلاماً ديموقراطياً، قابلاً للتعامل مع مقتضيات إرساء «دولة مدنية «، صار موجوداً بالفعل. فإذا كان ذلك ما يحدث، فان علينا أن نتوقع استمرار حضور جبهة، جذورها راسخة جماهيرياً، وهذه سوف تظل تؤمن الفوز للأحزاب الإسلامية. لكن للتحدي العصري في العالم العربي، على خلاف الحالة التركية المعتبرة «نموذجية»، معنى آخر حسب الإيحاء والدلالة التاريخية. فمسألة النهوض هنا، تستعيد أمجاد الإسلام، وموقعه الذي احتله عالمياً، على اثر الفتح وقيام الامبراطورية. وحتى لو كان المسلمون الأتراك يواجهون بالمقابل تحديات العثمانية، غير أن العالم العربي هو منطقة المبتدأ والأصل الذي طال انحداره كثيراً. فهل الإسلام المتجدد، والطامح لإحياء نموذج «دولة المدينة النبوية» في الحاضر، يملك أن يؤمن عودة النهوض الكبير، أو «تجاوزه»، كما تشترط تحديات القرون والحاضر. هنا على الأغلب ستدور المعركة الفاصلة، وتتجدد على أسس أخرى ما بين التيارات التي تقف خارج الإسلام السياسي، ولا تشاركه نفس الرؤية سياسياً، وبين الإسلام السياسي المنتصر انتخابياً. والأغلب أن عناصر معركة من هذا القبيل، ستقلب إجمالاً المشهد، وقد تأخذ المنطقة نحو أفق غير معهود. فهل سيستطيع «العلمانيون»، اقتحام المجتمع الأهلي وتغيير ثقافته، هل سيكتشفون الوسائل المعوضة عن نقص الآلية الموضوعية، مع قوة فعل عوامل الخصوصية التاريخية، أم أنهم سيجدون أنفسهم مجدداً، يكررون البحث والسؤال عن وسائل الحل، وإذا كان من الواجب تسقّطها داخل عناصر الحضارة المتراكمة، أم ستكون تكراراً من نمط الإصرار على استعارة التجربة الأوروبية الحديثة؟ بين هذا وذاك من المقترحات أو الخيارات، ربما تلوح في الأفق أخيراً منحنيات الثورة، إذ لا انقلاب تاريخياً فعلاً، من دون ثورة في الأفكار والرؤى، تخترق المجتمع الأهلي وتغيره. وهذه لم تحدث أبداً بعد، ولا لاحت سماتها في الأفق. * كاتب عراقي