«في القصيدة يجب ألا تظهر معاناتك كشاعر، ولا عذابك الذي يسبقها. يجب أن يبدو الأمر وكأن القصيدة كتبت نفسها. يجب ألا يظهر الجهد. دع القارئ يرى المولود ولا يعرف ما هو المخاض. دعه يرى الشيء في هيئته الناضجة، أما ما وراء ذلك فلا». من السهل استعادة هذه السطور للشاعر محمود درويش بقوة أثناء وعقب مشاهدة فيلم «أريج» أو كما كُتب بالإنكليزية – scent of revolution- أي «عطر الثورة» أو «رائحة الثورة»، وإن كان العنوان الأخير أقرب لمضمون الفيلم الذي أخرجته المصرية فيولا شفيق، لأن كلمتي «أريج» و «عطر» تنفيان وجود روائح كريهة أو غير محببة، وهو أمر لا يمكن استبعاده سواء على مستوى شكل الفيلم أو محتواه. تبدأ فيولا شفيق شريطها الوثائقي بلقطات أرشيفية لأحداث يوم 28 كانون الثاني (يناير) 2011 حيث المواجهات العنيفة على كوبري قصري النيل بين الشرطة وجحافل المحتجين من أفراد الشعب غير عابئين بخراطيم المياه وقنابل الغاز والخرطوش، وتلي ذلك لقطات أخرى من أعلى تكشف ضراوة هجوم رجال الأمن على المواطنين. ثم يأتينا صوت المخرجة معلقاً على ما نرى: «ليس هذا الفيلم الذي كنت أريد تحقيقه، وليست هذه القصة التي كنت أريد أن أحكيها... الأوضاع في مصر تتغير باستمرار، جعلتني أتوه، أنسى ما الذي كنت أريد أن أقوله». ما حذّر منه درويش وكأن شفيق بمقدمتها السابقة، وبمشاهد أخرى لاحقة، ترتكب كل ما حذّر منه محمود درويش. وهي بعد ذلك تنتقل من لقطات الثورة إلى صورة فوتوغرافية يرجع تاريخها لحوالى 100 سنة، تظهر فيها عائلة مصرية من الجنوب، «التقطها في الأقصر» مصور مصري اسمه عطية جديس، «يُعد من أوائل المصورين المصريين. فقبل ذلك كان المصورون كلهم أجانب، وكان المصريون بالنسبة إليهم مجرد ديكور أو قطعة آثار». لكن ما الذي لفت نظر المخرجة في صورة جديس؟ أن المصريين فيها جلستهم مستريحة، الظهور مستقيمة، وفي الوقت نفسه يبدو على وجوههم الإعتزاز بالنفس، مما ولَّد عند المخرجة رغبة ملحة لزيارة الأقصر من شرقها إلى غربها بحثاً عن تلك الكرامة. كانت تلك الصورة إذاً هي البذرة الأولى في مشروع المخرجة الذي انحرف عن مساره في ما بعد، رغم خطورته وأهميته، بسبب ارتباكها أمام زخم الأحداث التي مرت بها مصر على مدار ثلاث سنوات من الانتفاضة الثورية. يسير العمل في أربعة خطوط متوازية، تقريباً. كل خط تقوده شخصية أساسية: المرشد السياحي فرانسيس أمين محارب الذي يمتلك أرشيفاً فوتوغرافياً وأثرياً لا مثيل له في مصر، والمحامي والناشط الحقوقي صفوت سمعان الذي يوثق بالصورة والفيديو وقائع وتصريحات وشكاوى الأهالي وضحايا فساد المسؤولين في الأقصر، ثم الكاتب علاء الديب الذي يحكي عن كتاباته ومشروعه الروائي المتبلور حول خيانة الطبقة الوسطى، ثم يعرج للحكي عن أشياء متفرقة في حياته، كنشأته، وانتمائه السياسي، ومعاناته مع المرض وعوزه المادي واضطراره لأن يوقع عقود كتب وهمية – على حد وصفه - لتحصيل أموال وتسديد نفقات المستشفى. وقبلها تظهر زوجته السيدة عصمت في أحد المشاهد لتحكي عن إقامتهما الفندقية والاستجمام في أحد المستشفيات على النيل. وأخيراً تظهر بين حين وآخر مصممة غرافيك شابة تمنعها أسرتها من حرية الحركة في شوارع المدينة فتستبدل الحياة الواقعية بالحياة الافتراضية على أحد مواقع التواصل الاجتماعي. الجزء الخاص بعلاء الديب يصلح أن يكون نواة فيلم آخر منفصل عن مأزق الثوري المحبط. أما الجزء الخاص بالأقصر فهو أهم المحاور جميعاً ويظهر على مستويين، الأول يطرح تساؤلاً: كيف تكون مصر هي أول دولة في الشرق استقبلت التصوير، وظل المصورون يزورونها باستمرار لكنها لا تمتلك متحفاً للتصوير؟ والإجابة يمكن استنتاجها من ثنايا الفيلم، إذ يتعلق الأمر بإهمال المسؤولين وعدم إدراكهم أهمية إنشاء أرشيف أو متحف يحتوي الوثائق والصور التاريخية وتصنيف تلك الكنوز المهملة والتي لا يزال فرانسيس يحاول أن يحميها في مخازنه، لكنه يعترف بأنه ليست لديه هذه القدرة التنظيمية وبأنه خاطب المسؤولين من دون فائدة. خطابات «الكبير» المستوى الثاني يتعلق بمشروع المثلث الذهبي وحفر طريق الكباش الذي يمتد الى الكرنك حيث تُؤكد شخصيات الفيلم أن اليونسكو رشحت أن يبدأ الحفر في العام 2023 حتى 2030، وذلك حتى تمنح للأهالي وسكان البيوت التي سيتم هدمها فرصة لتدبير بيوت جديدة تنتقل إليها. لكن المحافظ سمير فرج، وفق تصريحاتهم، بدأ ينشط قبل الموعد بسنوات فأصدر أوامره بأن يتم الإخلاء في 3 أيام، وأحياناً كان يتم هدم البيوت وأصحابها لا يزالون بالداخل يجمعون أشياءهم. وأصبح الحفر والهدم في كل مكان فأصبحت المدينة «أشبه بغزة بعد القصف» على حد وصف صفوت سمعان، الذي صور الكثير ومنهم امرأة وعائلتها تشتكي بأن المسؤولين استولوا علي بيتها المكون من ست غرف وكانت تقطنه أربع أُسر فأعطوها فقط 64 ألف جنيه أي مقابل ثلاث غرف فقط. مثلما يؤكد المحامي أن هناك شخصيات تحصلت على تعويضات بالمليون جنيه عن شقة واحدة، على رغم أنهم مخالفون في البناء، أو يبنون على أرض ليست ملكهم أو سطوا عليها، بينما أصحاب الأرض والشقة تحصلوا على 45 ألف فقط. كذلك رصد سمعان بكاميرا هاتفه المحمول حركة الهدم للبيوت والعمارات، وشكاوى الأهالي الرافضين الإخلاء من تهديدهم بالاعتقال، وترويج أخبار أن سمير فرج أحضر 400 خطاب اعتقال من «الكبير»، فهكذا يصرخ أحد الشباب أثناء هدم عقاره قائلاً: «لا أريد منهم فلوساً. أنا مستعد أدفع لهم فلوس حتى لا يهدموا بيتي...». ثم يخبرنا المحامي أن هذا الشاب انتحر بعد ذلك من كثرة المشاكل التي واجهها والاستيلاء على بيته. كذلك يتضح شق آخر للفساد من خلال مشروع بيوت القرية التي تم نقل الناس المهجرين إليها. فوفق تصريحات الناشط الحقوقي أن الوحدة السكنية فيها كان مخصص لها 130 ألف على أن يقوم بها جهاز القوات المسلحة للإنشاء والتعمير والذي منحه لمقاول من الباطن ب 80 ألف، وهو بدوره أعطاها لمقاول ثالث من الباطن ب 64 وانتهى المطاف إلى أن أصبحت تكلفة المبنى 48 ألف جنيه فقط فظهرت الكارثة، مصورة، بعد شهر واحد من تسليمها حيث تنتشر في جسدها وجدرانها الشقوق والشروخ الممتدة طولاً وعرضاً، وكل فترة يقومون بترميمها من دون فائدة. الربط التعسفي كل هذا يقوله الفيلم بيد ان أحد عيوبه الأساسية يكمن في أن مخرجته كانت ترصد آراء الناس دون مناقشتهم، وكأنها حقيقة لا تقبل الجدل، أو لا تحتاج لتعميق الرؤية وتوضيحها، ومنها مثلاً رأي علاء الديب أن «ثورة 25 يناير 2011 غير قابلة للإجهاض»! مع ذلك يتجسد الإشكال الرئيسي للفيلم في عدم قدرته على الربط بين هذه الشخصيات والقضايا التي تثيرها، أو هو ربط تعسفي، فقد فشل كتاب السيناريو في تضفير الخيوط جميعها في نسيج واحد هارموني يحمل دلالات ومعان إبداعية، فهناك مشكلة في اختيار كيف تبدأ ومتى تنتهي، وما الذي تتركه ضمن المتن وما الذي تستغني عنه، وكيف يكون ترتيب اللقطات والمشاهد بشكل أكثر فاعلية. فالتنقل من محور إلى آخر كان يُضيع الأثر القوي الذي تحقق في مشاهد سابقة، ويهبط بنا من الذروة بعد أن صعد بنا إليها. فكارثية الوضع في الأقصر، مثلاً، يصيبها الشحوب ويتلاشى وقعها بمجرد الانتقال إلى لقطات العنف الذي مارسته الشرطة والعسكر مع شباب وفتيات الثورة في ميدان التحرير والمناطق الأخرى المشتعلة. الى درجة يمكن اعتبار بعض الفيلم معها نموذج العمل الذي يمكن تدريسه للطلاب والمهتمين بالسينما كأحد الأشكال التي يجب تفاديها عند صناعة فيلم وثائقي، أو كأحد النماذج التي تجسد كيف ومتى يضيع جوهر الصورة ويصبح مضمونها الخطير بلا قيمة. ويُدرس أيضاً لإبراز كيف تسحب شحنة انفعالية من المتلقي بعد أن حقنته بجرعة مكثفة منها. مع ذلك فإن التصوير في الفيلم جيد، والشخصيات المتحدثة لديها إيقاعها الخاص وزمنها النفسي المكون لكل مشهد أو لقطة على حدة. على رغم ما سبق أيضاً لا يزال الفيلم - البالغ طوله 86 دقيقة - يحمل في داخله مشروع فيلم عن الأقصر على درجة كبيرة من الأهمية قد تصل مدته إلى 45 دقيقة، بعد أن يتم اختزال الشخصيات الأربع إلى اثنتين فقط لإنجاز فيلم أخر لن يكتفي بإلقاء حجر في المياه الراكدة المتعفنة، ولكنه حتماً سيفتح أبواباً عدة على قضايا وملفات فساد شائكة يتورط فيها كُثر.