من الملاحظ أن هناك الكثير مما كتب عن سورية خلال الأحد عشر شهراً الأخيرة أخذ طابع السجال السياسي بين أوساط المعارضة. مثل هذا النمط من الجدل يبدي فيه كل طرف الكثير من الإهمال لما لدى خصمه من حجج صائبة، ويهدد بانزلاق الطرفين في نهاية المطاف إلى العدم السياسي. ومبررات هذا الاحتداد أصبحت معروفة: النظام السوري يرفض أي تسوية لذا لا داعي للبحث عن المشتركات! قبل ذلك كان النظام قد استمر طويلاً لأنه استطاع أن يفرّق بين السوريين على أساس الولاء له، واستطاع تحويل المجتمع من طريق الاندماج إلى تكريس البنى ما قبل الوطنيّة، وأثبت بذلك أنه سيّد الطائفيّة وليس مجرد طرف فيها. وكان لمنطق السجال من موقع المعارضة أن يوصف بالسليم، نتيجة صحة مبرره، لولا أنه يُغَيّب ضرورة أن تقوم المعارضة، بدعم من مثقفيها، بالتفكير من محل الدولة التي غيّبها النظام في سورية. والضرورة هنا لا تتأتى من حاجة أخلاقية فقط، إنما أولاً من كونها استجابة عملية لمبدأ الثورة الديموقراطية السورية: الانتقال إلى الجمهوريّة الديموقراطيّة بما هي آليات حكم أكثر عدلاً، والأهم أنها أداة إنتاج الحلول لبلد يعجّ بالمشكلات بفضل حكمٍ مستبدٍّ وشديد الفساد. ومن يريد ذلك يفترض به أن يعمل بمقتضى ما يريد، أي أن يجعل من سبل تفكير الجمهورية الديموقراطية المستقبلية نواظم تفكيره الحالية. والتجسيد العملي لما نقول به هو أن تفكر المعارضة بالمصلحة الكلّية للشعب السوري، الغالبيّة الثائرة والأقليّة الموالية. ولا يقلّل نجاح المعارضة من فعل ذلك من صلابة موقفها من النظام، بالعكس يثبت جانباً من حقيقة أن سقوط الاستبداد مصلحة عموم الشعب السوري. هذا ما يجب أن تثبته المعارضة، فهو حتى الآن مفهوم من عامة الناس نتيجة سوء النظام، بينما يحتاج الأمر أن يؤازره إدراكهم بأنه مثبت أكثر من خلال جودة المعارضة. إن وضعنا المعارضة جانباً، ونظرنا إلى الحراك الشعبي السوري بإجماله، نجد أن الانتفاضة السورية عادلة لأنها خروج الناس على علاقة قهر وتسلّط تتضمّن تعالي الحاكم على المحكوم، فيتجاوز الأول احتكار إدارة شؤون الثاني إلى إذلاله. وهي عادلة لأنها لا تسعى إلى نفي الموالين للحاكم، وإنما إلى نقلهم من حالة التبعيّة إلى وضع المساوي والشريك في الوطن، ولا يتمّ هذا إلا بجعل الحكم جزءاً من شأن عام يقرّر أمره جميع المواطنين ويبقى مثار مراقبتهم ومحاسبتهم. وفي خطاب الشارع المتحرك وسلوك أغلبيّته حساسية عالية تجاه رفض الظلم من كان مصدره وإلى من توجه. بقي هذا الحال ردحاً طويلاً من زمن الانتفاضة، على الرغم من القمع المهول الذي تعرّض له المنتفضون من النظام. ولكن، وعندما زادت مشاركة القاعدة الاجتماعية للنظام في قمع الشعب الثائر، ووصلت إلى ما نقلته وسائل الإعلام عن ارتكاب مذابح بالمعنى الحرفي للكلمة من خلال قتل عائلات كاملة بالذبح، تنامي الحقد على حساب القضيّة في بعض الأوساط، فصرنا مهدّدين بنجاح السلطة من تحقيق غايتها بزجّ الانتفاضة في أتون الصراع الأهلي. وعلى مشارف هذا المأزق ظهرت ملامح أزمة المعارضة، التي بقيت طوال الوقت خلف الشعب تلاحق مبادرته وتصاعد استعداده للتضحية، فهي لم تستطع أن تكون تكثيفاً لما في الحراك الشعبي من سموٍّ أخلاقيّ من خلال تحويله لآليات عمل. ولم تصنع منهجاً من الشفافيّة في التعامل مع ما يظهر في الحراك من سلبيات، وهو متوقّع من أي سلوك إنساني، فعجزت عن صنع آليّات حماية ذاتية له. جوانب الفشل لدى المعارضة لم تعد أمراً يمكن السكوت عنه، فهو يهدّد بأن تتحول الثورة عن ذاتها، أن تصبح شيئاً آخر يشبه من ثار الناس عليه في مبتدأ الأمر. وحين يتشابه المتناقضون يكون في واقع الأمر قد هزم أحدهما من طريق تمثّله الآخر، عداك عن أن ذلك خيانة لتضحيات الشهداء ومقدمة لمستقبل يناقض ما أملته جموع الناس. قد يبدو ما نقول تهويلاً بعيون المتحمّسين للانتفاضة، ونحن منهم، ولكنه ينطلق من الحرص على صوابها والمستقبل الذي ستؤدي إليه. طوال عقود سبقت الربيع العربي الذي نشهد رُفع شعار: «لا صوت يعلو فوق صوت المعركة». اليوم يواجه البعض الانتقادات الموجهة لسلبيات الثورة بمثل هذا القول، وهو ما يستحق الشجب بدوره لكونه يغطي مخاطر قابلة للتنامي. ننطلق من اعتقاد أن مخاوفنا من أن ما في الطرفي والهامشي في الحراك العام من سوء قد تنشأ ظروف انتقاله لموقع القلب والأساسي. حينها نتحوّل عن هدم ما في القائم من أسس ضيم وقهر إلى حالة من التعفّن العام. وهو ما يستوجب تفاعلاً واسعاً من أجل مواجهته من قبل قوى الحراك الحيّة. يصحّ للقيام بذلك البدء بإدانة النزعات الطائفيّة في جنبات الحراك، وإن كانت ناتجة من ردّة فعل، بل لأنها ردّة فعل عمياء من جنس الفعل المدان للنظام، ومن تفاعلهما ينتج تكامل يهدّد الوطن بمجمله. * كاتب فلسطيني