حشرها في زاوية ضيقة، سلب رغائبه ثم هجرها معلقة في حالة ثملة، لا تدري كيف الخروج منها، ظلت طوال الليل تخط بخطواتها المتعثرة بعقبات حجرية، لذاكرة لم تشخ بسبب مرارة الألم التي ما زالت عالقة في حلقها، ضربت الباب بيدها ندماً على رضوخها لرغبة حملت أثقالها على صدرها أعواماً، بآهات اخترقت مسامع الجدران حين قالت: أين كان عقلي عندما قبلت بالزواج من رجل خلق من معجون اللهو واللامبالاة؟ فقدت بريق عينيها وجمال بسمتها، لأنها لا تملك القدرة على أن تمنع عقدها من الانفراط. تناثرت حبات العقد حولها، فلم تعد قادرة على جمعها من بطن البيداء المقفرة، رفعت سماعة الهاتف بيد مرتعشة. حاولت أن تتذكر أرقام هواتف أبنائها فلم تتمكن من ذلك. خانتها الذاكرة التي توسدت الألم والحنين، فخلدت للنوم تحت تأثير المهدئات، التي أكلت من جسدها الكثير. سمعتها الممرضة تذكر أسماء العصافير التي هجمت عليها الطيور الجارحة في ليلة حالكة السواد تفتقد إلى النجوم، بينما هي تمرر سماعتها الطبية على صدرها المنكمش. لمحت دموع تلك العجوز تسيل على خديها التي فقدت نظارتها. حاولت مسح تلك التجاعيد بلمسات حانية، تعيد لها شيئاً من الأمل، جلست سوسن على المقعد المجاور للخالة موضي، بعد أن أتمت لها جميع الفحوصات اللازمة لحالة مستقرة، نظرت الخالة موضي لممرضة سوسن قائلة: كان لي بنت في مثل سنك وجمالك، لا أدري أين ذهبت مع أخيها؟ هل تعرفين إلى أين ذهبت؟ هل حفر لهم الغراب شقاً في الأرض ووارى جسميهما الصغيرين؟ الغروب يوحي دائماً بمولد يوم جديد مشرق، دست الأشواك بذلك الأمل الذي تعلقت به عندما هجرني زوجي، وتركني معلقة في شجرة الحرمل، ظلت حياتي متأرجحة في عيون الناس، التي شوهت سعادتي عندما وضعتني في دوامة معلقة مطلقة، لأظل أدور في حلقة لا مخرج منها، زادت الأيام في غيها فكانت الليلة التي فضت مشاعري، عندما عاد زوجي إلى الحياة من جديد، آمنت في تلك اللحظة بالبعث، وأن الأموات يعودون إلى الحياة في غفلة من الزمن البائس، تغيّرت ملامحه، إذ دفن الفقر في مقابر ذاكرتي لرجل معدم لا يملك من الحياة إلا فتاتها، فمن أين له ذلك الثراء؟ هل هبطت عليه من السماء؟ السماء تمطرنا بمائها حد الغرق، ولكننا لا نملك القدرة على أن ندخر كنوزها في جيوبنا الأسمنتية. رحل مع الأولاد بعدما مارس عليهم لعبة الغواية، بينما تمسكت أنا بجذوري إلى أن تهشمت قواي بطاحونة الفقر، فلم أعد قادرة على أن أعتني بنفسي، قالت المسنة لسوسن مرة ثانية: كم تشبهين طفلتي التي رحلت منذ 20 عاماً. رسمت علامات الدهشة على وجه سوسن التي ظنت أنها حالة هذيان لامرأة هرمت ذاكرتها، سمعت أن أباها زوّجها لطوفان الثراء. فأنجبت طفلتين، بينما توسد أخوها المرض جراء تعاطيه السموم التي كان يبني بها أبوه أهرام ثروته. «انقطعت أخبارهم عني بانقطاع المطر»، شهقت العجوز شهقتها الأخيرة ما إن لاحت لها صورة ابنتها قادمة من الغرب في ثوب عرسها الأبيض. * قاصة سعودية.