«إسقاط» الرأسمالية الصناعية هو مطلب منتدى اقتصادي دولي أول لدعم الإدارة المستدامة للأراضي، أسّسه أخيراً رجال أعمال في القارة الآسيوية لإصلاح أخطاء الرأسمالية التقليدية التي تمجد رأس المال المادي على حساب الرأسمالين الطبيعي والبشري. في القرن الثامن عشر، تحركت الثورة الصناعية بأثر من قلّة اليد العاملة وعدم كفاية إنتاجيتها، في ملاقاة الحاجات التي انبثقت من تطور العلم والتقنية العميقة المنجزة آنذاك. بعد ثلاثة قرون من تلك الطفرة الصناعية الضخمة التي ظلت إلى وقتنا الحاضر تتعامل مع الموارد الطبيعية على أنها غير محدودة، تقف البشرية أمام نقطة تحوّل في تاريخ الاقتصاد، إذ أدى تضخّم الإنتاج وتنوّعه، وارتفاع الاستهلاك، والنمو الديموغرافي المطّرد، إلى استنزاف متعاظم للطبيعة. وبرزت حاجة إلى ثورة أخرى يسميها أتباعها «رأسمالية الطبيعة»، تمييزاً لها عن رأسمالية الصناعة، تضع نصب أعينها استعادة توازنات الأرض والبيئة والمجتمع. التصحّر وثورة الطبيعة في سياق المؤتمر العاشر لأطراف «اتفاقية الأممالمتحدة لمكافحة التصحر وتدهور الأراضي والجفاف»، الذي شهدته كوريا الجنوبية قبل فترة وجيزة، نُسّقَت جهود كبرى لإنشاء «منتدى الأعمال للإدارة المستدامة للأراضي» Sustainable Land Management Business Forum. ونُظِر إليه كدعوة عالمية تتوجّه إلى قطاع الأعمال لحضّه على تبني «رأسمالية طبيعية» والاستثمار في الأراضي. واستطراداً، لا بد من ذكر ان هذه المبادرة أنقذت ماء وجه المنتدى الكوري الذي واجه تحركاً من عشرات آلاف متظاهري «حركة الساخطين». وسعى المتظاهرون لإبراز احتجاجهم ضد جشع النظام الرأسمالي، في تحرّكات رافقت المنتدى المذكور، وشملت ما يزيد على 80 بلداً. كما جاءت الاحتجاجات على خلفية الأزمة المالية التي دفعت اقتصادات دول متقدمة إلى حافة الانهيار، ووحدت بسياسة التفقير مواطني الدول الغنية والمتخلفة سواء بسواء. تردّدت في أروقة هذا المنتدى أصداء صرخة الشارع الدولي. وجاء تأسيس المنتدى ليقول إن المسؤولين عن انهيار النظم الاجتماعية والإفلاس المالي والكساد الاقتصادي ليسوا كلهم سواء. إذ تضمّ صفوفهم بعض من يفكر بتأمين مصادر العيش، ويوجه معاول النقد إلى وحشية الرأسمالية التي لا تحفل سوى بالسلع وإنتاجها. ودعا هذا النفر إلى حماية رأس مال الطبيعة المستخدم في صنع السلع، بل وجه لوماً الى رأسمالية الصناعة لإعلائها إنتاج السلع فوق مصلحة المنتج الفلاحي، الذي بات يُسعّر حصرياً بتكاليف إنتاجه، بدلاً من الالتفات إلى قيمة التربة، وهي أصل المنتج الفلاحي. «نطالب بنهضة جديدة». بتلك الكلمات تحدّث يونغو كيم، وهو بروفسور كوري مرموق، مخاطباً قرابة 80 من رؤساء الشركات التي تبنّت قضية المنتدى البيئي. ولم يكن ضمن هؤلاء أي ممثل لشركة من دول عربية أو أفريقية، إذ انتمت غالبية الحضور إلى دول آسيوية، خصوصاً كوريا الجنوبية واليابان والصين. ووفق تأكيد لويس بيكر، كبيرة المستشارين في الشراكة في سكرتارية الإتفاقية الأممية، جاء رؤساء الشركات على نفقتهم الخاصة. وقالت: «قدموا من أجل ما تعنيه قيمة الأراضي المستدامة، باعتبارها مصدر الإنتاج الفعلي الذي تعتمد عليه أعمالهم ومستقبلها وازدهارها». من ناحية اخرى، بهرت كوريا الجنوبية ضيوفها الذين زاد عددهم عن ستة آلاف شخص، بمنجزاتها الخضر. وأظهرت طول باعها في مجال إعادة تأهيل نُظُم متدهورة بيئياً، ودعم النمو الأخضر. يُحسب لكوريا الجنوبية التي دُمّرت غاباتها في حرب الكوريتين قبل نصف قرن، أنها عملت بصورة مبكرة على استعادة مساحاتها الخضر، وإشراك المواطنين في صيانتها، بفضل برنامج وطني شامل للتشجير، استطاع تغطية ثلثي أراضي كوريا الجنوبية بغابات خضر كثيفة. عقد اجتماعي مع الطبيعة في سياق المنتدى عينه، استعرض وزير كوري سابق للتجارة والصناعة والطاقة، ملامح النهضة الجديدة في مفاهيم البيئة. ولفت إلى أن عصر النهضة الصناعية في أوروبا اقترن بارتفاع ضخم في إنبعاثات ثاني أكسيد الكربون وغازات التلوّث إلى الغلاف الجوي، نتيجة اعتماد الثورة الصناعية على طاقة النفط. ورأى أن عصر النهضة الجديد يستند إلى ضرورة خفض انبعاث هذه الغازات، عبر تبني الاعتماد على طاقة الطبيعة. وبشّر الوزير الكوري بانبلاج نظام رأسمالي جديد، استناداً إلى نظرية رأسمالية الطبيعة التي طرحت عام 2008. وعاد الوزير الى عصر النهضة في أوروبا ليستلهم نظرية العقد الاجتماعي للفيلسوف الفرنسي جان جاك روسو. ودعا إلى تجديد العقد الاجتماعي في سياق النهضة الجديدة التي لهج بالدعوة إليها. وقال: «إذا كان العقد الاجتماعي في القرن السابع عشر يمثّل إتفاقية بين الدولة والفرد لأجل المصلحة العامة العليا، فليس العقد الاجتماعي في القرن الحادي والعشرين سوى اتفاقية سلام بين الإنسان والطبيعة». وتعمّق الوزير الكوري في تفصيل ملامح رأسمالية الطبيعة، عبر التعمّق في المقارنة مع عصر النهضة الأوروبية. ولاحظ أن تلك النهضة ركزت في القرن السادس عشر على إعادة اكتشاف الإنسان، في حين أن النهضة الجديدة في القرن الحادي والعشرين تركز على إعادة اكتشاف الطبيعة. وأشار إلى وجود حركة من العودة إلى منتجات الزراعة البيولوجية، مع تنامي شعبية المطاعم التي تقدم أطعمة طبيعية أيضاً. ونبّه إلى أن الثورة قد تؤول إلى فشل، إذا انعدمت وسائل تحقيق أهدافها. ودعا للذهاب الى ما هو أبعد من منح مساعدات ورفع قيمة الضريبة على استخدام رأس مال الطبيعة، مُحرّضاً على فرض ما يعرف ب «ضريبة توبين». تحمل هذه الضريبة إسم صاحبها جيمس توبين، الاقتصادي الأميركي الحائز جائزة نوبل للاقتصاد. وتتمثّل في أن تتحمل الرأسمالية المالية ضريبة صغيرة (قرابة 1 في المئة) على المعاملات المالية التي تسعى لتحقيق ربح في سوق النقد العالمي. في المقابل، مال الوزير الكوري إلى تخفيض «ضريبة توبين» إلى النصف، مُلاحظاً أن هذا يؤمّن قرابة 7 بلايين دولار، يمكن تخصيصها لإنشاء صندوق أخضر يُشجّع رأسمالية الطبيعة. لم ينجح جيمس توبين في تمرير ضريبته، التي اقترحها في سبعينات القرن الماضي. وحاضراً، يُطالب كثير ممن يتحركون في تظاهرات ضد جشع الرأسمالية والإمبريالية المتوحشة، بتطبيقها في أسواق المال. والمفارقة أن توبين من المُدافعين عن مصالح الرأسمالية. وقد ابتدع ضريبته لحماية قيمة الدولار في السوق المالية، وللدفاع عن أرباح الرأسمالية. ربما يشفع للمناضلين ضد الرأسمالية الاقتصادية، أنهم نظروا إلى «ضريبة توبين» باعتبارها وسيلة لتحقيق غاية قد تكون مغايرة لما سعى إليه توبين نفسه! وأخيراً، دعا الكوريون الجنوبيون زوّارهم لتفحّص نموذج عن هذه الاتفاقية في مدينة «شانغوان» الجنوبية، التي استضافت «المؤتمر العاشر لإتفاقية مكافحة التصحر»، وهي المرّة الأولى التي عُقِد فيها المؤتمر في القارة الآسيوية. ففي «شانغوان»، تتناغم الطبيعة والعمران في شكل بديع. يميز المدينة تخطيط مُحكم. إذ قُسمت إلى جزءين سكني وصناعي، يفصل بينهما طريق واسع. وتعتزم كوريا الجنوبية تنصيبها عاصمة بيئية للبلاد عام 2015، على رغم أنها مركز صناعي مهم تستقر فيه صناعات تكنولوجيا المعلومات والملاحة والطيران. ويتوقع أن تغدو «شانغوان» عاصمة عالمية للبيئة عام 2020.