بعض القضايا المحلية تقطع القلوب، وتتعبك كثيراً، تملأ حياتك فجأة بالخوف من كل شيء، لا يوقفني من دون الكتابة عنها منذ لحظة الكشف سوى حال الذهول الرهيبة التي تنتابني، ويرادفها بكاء مستتر حارق عن مجتمع بدأت تطعن جسده هذه الجراح الرهيبة، فيفضل الصمت أو لا يملك غيره، إن صح القول، ولم يوقفني - تحديداً - عن الكتابة في مثل هذه القضية، منذ فضيحة الكشف، سوى انتظار ما ستسفر عنه النتيجة النهائية للتحقيقات، وأن التقط السبب لأنه لا داع للنحيب مرة على النتيجة المحرقة. القضية - صلب المقال - هي طفل وُجِد منحوراً ومفصول الرأس في منطقة مكةالمكرمة، ذهبت التأويلات والتنبؤات لقائمة من المتهمين، وأخذتنا الصدمة الأولية إلى صعوبة تقبل فاجعة الجريمة، ثم فتحت طابوراً من علامات الاستفهام عن حضور مثل هذا العمل الوحشي في مجتمع متماسك مترابط يُغَلِبُ العامل الإنساني دوماً حتى في أحلك الظروف، وقبل أن أخطو إلى المنعطف في المقال سأحضر المصيبة العظمى التي كشفت عن أن القاتل لم يكن سوى وحش يدعى «أب»، وهو - وحده - من أقدم على القتل وفصل الرأس عن جسد طفله البريء الضعيف المغلوب على أمره، ومن كان ضحية لكائن حي منزوعة منه الإنسانية والرحمة يدعى خطأً «أب». القضية ليست الأولى بالتوجه نفسه واقتناع الفاعل بأنها حل ختامي لخلافات رديئة، لكنها هذه المرة هي الأسوأ في الفعل والتنفيذ، وما أقسى أن يكون الأب مجرماً، أو تكون الأم بلا قلب، والعار ألا يجدا مخرجاً لمآزقهما إلا عبر رقبة طفل هو الوردة التي من أجلها كان الهدف من بناء حياة. يخرج السؤال الحاد ما الذي يحدث في مجتمعنا بين حين وآخر؟ هل نزعت القلوب بالكلية، ومعها مشاعر الرحمة والعطف واللين؟ من السبب في تتابع مواجع متلاحقة، ونحن الذين عشنا زمناً لم نُدون في سجلات الجريمة مشهداً مقززاً وصادماً كهذا المشهد، أعرف أن الأصابع تتجه فوراً للمبررين الأبرزين في أي قضية تستعصي على التخيل والتوقع، وهما «لعنة المخدرات» وموضة «المرض النفسي»، وقد تصح تبريراتنا في شيء من القضايا العابرة، وتكشف محاضر الضبط والتحقيق أن المسبب الفعلي للشذوذ الإجرامي والأفعال الخطرة لم يغادر عن لعنتنا المحلية الكبرى وموضتنا المتزايدة لسبب مجهول، لكن من المستحيل أن يتصدر التبريران كل القضايا الاجتماعية. هل تراجع بالفعل دور مؤسسات المجتمع، إذا تجاوزنا وسميناها بمجتمعات؟ هل رواد منابرنا وعشاقها يملكون الرغبة والجرأة في الدخول إلى دهاليز هذه الفضائح، وإعلان لماذا حضرت؟ وما السبب؟ هل بالفعل بيننا من يكبت ثم ينفجر؟ على رغم أن الكبت على ما لا يستحق، والانفجار بمثابة العار، هل تحل قضايانا وفواجعنا ومواجعنا بالصمت والتحسب، أو بالضجيج الوقتي؟ أم لا بد أن تحضر القضايا على شكل تغريدات وملاسنات، أو تجريح مباشر، حتى نشتعل ونتهم ونقصي ونشكل فرق عمل. «أب» يقتل ابنه، ويفصل رأسه عن جسده، ويأخذ رأس الابن معه إلى حقيبة سيارته! هل يحسب هذا حدثاً طبيعياً وجريمة معتادة، هل الأب يملك ذرة وعي أو إدراك؟ بالطبع لا، ومن يضمن ألا يكون هناك «أب» مقبل ينفذ جريمة بالبشاعة ذاتها؟ أين من يملك التأثير ويستطيع أن يؤثر؟ صدقوني أن الأب كان أيضاً ضحية مجتمع أهمله، وأذن لم تسمعه، وأفواه لم تقنعه، وحاجات ضُرِبَ بها عرض الحائط أدت لفقدان العقل أولاً، ثم ذهب لعمل لا يمكن أن أشرحه سوى بدمعة ساخنة على الخد، ونقطة أخيرة على السطر. Alialqassmi@Hotmail @alialqassmi