كيف نعرف أن حدثاً جللاً قد وقع؟ حين نلاحظ أن أغلبية كتاب الأعمدة وأصحاب التعليقات توقفوا في الصحيفة ذاتها أو في كل الصحف عند حدث دون غيره. أو أنه حين نسمع بخبر ولا يمكننا عندها إلاّ أن نقف مشدوهين أو مأخوذين أو مرتبكين أو منزعجين بيننا وبين أنفسنا. فهذه تكون علامات الحدث الجلل، وهذا ما أحسست به ولاحظته صباح يومي الخميس والجمعة الماضيين. صحيح أننا كنا ودعنا السنة الماضية مع بعضنا بعضاً في سهرة عائلية، وصحيح أني كنت على معرفة أن صحته تدهورت في الأسبوعين الأخيرين، مع ما يحمل هذا التدهور من احتمالات، وصحيح أنني، وبسبب هذا التدهور، كنت اهجس بدنوّ أجله، لكن الصحيح أني حين سمعت النبأ صباح الخميس، أصبت بالحزن والألم الشديدين. كنت أتسقط أخباره والتحسن في صحته وكنت أعلل الآمال أن يمد الله بعمره ويرزقه الصبر والقوة والعافية والصمود لمقاومة المرض. وكنت آمل بأن عافيته التي نجحت سابقاً في تخطي الصعاب التي واجهها ستتمكن من النهوض به مجدداً ليعود إلى نشاطه، لكن، يبدو أن المرض الذي لم ينل من إرادته ومن ثقته ومن إيمانه نال من صحته وتغلب أخيراً عليه. رحل الصديق والأخ نسيب لحود تاركاً فراغاً كبيراً في القامة والمشهد والنكهة والمقاربة السياسية، فراغاً لا يستطيع أحد غيره أن يملأه. ولكون الحدث كبيراً وكبيراً فإن صفحات الصحف في اليوم الثاني وعناوين المقالات فيها لم تستطع أن تتجاهل غياب هذا الرجل المميز، فترانا نقرأ في صحيفة واحدة عناوين مثل: نسيب لحود القامة المفتقدة... ونسيب لحود رئيس انتخبه الناس... ونسيب لحود النخبوي رحل متوحداً... ونسيب لحود الرؤية للجمهورية... وفي مكان آخر نقرأ: رجل الربيع الدائم... الخ. فقدت شخصياً بغياب النائب والوزير السابق رجل الدولة نسيب لحود... الأخَ والصديقَ الغالي... وفقدتُ الشخصية الوطنية والانسانية. كذلك فَقَدَ لبنان بغيابه شخصيةً استثنائيةً بكل ما للكلمة من معنى، فقد كان نسيب لحود رحمه الله قُدوةً ونموذجاً ساطعاً من النماذج التي جسدت، بصدقها وأدائها وبالقيم التي حملتها، تطلعَ اللبنانيين نحو إعادة بناء وطنهم ودولتهم على أُسُسٍ صلبةٍ وواضحةٍ وشفّافة. لقد اجتمعت في نسيب لحود خصالٌ وأخلاقٌ عدة في شخصٍ واحد. فقد كان مثالاً للعصامية والطموح وإرادة التطلع دوماً إلى الأمام والثقة والأمل بالمستقبل. لذلك فقد آمن بالقدرات الذاتية للبنانيين وبإمكانية أن يكون للبنانيين قرارُهُم الحر والوطني، وأنه بإمكانهم عبر العمل والمثابرة أن يصنعوا مستقبلاً ساطعاً للبنان. ولقد جسد نسيب لحود الشفافية، حيث أبرزها بقناعاته وبأدائه وممارساته، فهو كان من القلة الذين فصلوا العمل الخاص عن العمل السياسي في لبنان، ولذا كان قراره بوقف أعمال شركته الهندسية في لبنان منذ أنْ بدأ ممارسة العملِ العامَّ في لبنان، أي منذ أن عُيِّن سفيراً وبعدها انتخب نائباً. ولقد كان ذلك قراراً هاماً وشهيراً. لهذا، فحين كان نسيب لحود يتحدث عن الشفافية وعن المصلحة العامة كان ينطلق من تجربة ملموسة طبقها على نفسه، ولم تكن كلاماً أو شعارات كما كان يحلو للبعض إطلاقها للاستهلاك المحلي أو لاستجداء الدعاية الانتخابية. كذلك جسد نسيب لحود نموذج التمسك بالحرية والديموقراطية، فدافع عن النظام الديموقراطي بوجه القمع، وعن الحرية بوجه التسلط، حيث كان التزامه واضحاً إلى جانب الأحرار في مواجهة المستبدين. تمسك الراحل نسيب لحود باستقلال لبنان وسيادته على أرضه وبقراره الحر النابع من إرادة مواطنيه وبجميع القيم التي جسدها لبنان ودافع عنها نسيب لحود وأمثاله. كما جسد نسيب لحود تمسك اللبنانيين بإعادة بناء دولتهم وتأمين سيادتهم على أرضهم ومؤسساتهم، وحلمهم ببناء دولة مدنية تحمي المواطنين وتصون حرياتهم. وكان في تعامُله الشخصيّ مع أصدقائه وعارفيه من اللبنانيين والعرب وفي العالَم الأَوسع، مثالاً للودّ والنزاهة وحفظ التواصل والانفتاح. عرفته صديقاً ثم سفيراً ونائباً طليعياً أغنى العمل السياسي والبرلماني وبعد ذلك الحكومي، بخبراته ومعلوماته ورؤيته. مما لا شك فيه أن غيابه، وفي هذه الظروف الدقيقة بالذات التي يمر بها لبنان وعالمنا العربي، شكل ويشكل خسارة فادحة لكل اللبنانيين، ولجميع أصدقائه العرب وفي العالم الأبعد. من المؤسف ان غيابه قد أتى مع تفتح الازهار، مع بدء الربيع العربي، حيث كان من المفترض أن يكون نسيب لحود رجل هذا الربيع وهذا الموسم وهذا العبق من الديموقراطية الذي انتظره وانتظرناه طويلاً معه. رحم الله نسيب لحود الإنسان المؤمن والخَلوق، الرجلَ المستقبلي، القامةَ الاستثنائية التي قال عنها بعض كتاب الصحف اللبنانية انه الرئيس الذي انتخبه الناس والنخبوي الذي رحل مستوحداً وقال عنه آخر: معك ندفن بعض أحلامنا. لكني لهؤلاء ولغيرهم أقول: نسيب أيها الأخ والصديق، رحيلك سيجعلنا أكثر أملاً وأكثر تمسكاً بالربيع القادم والغد الأفضل الذي حلمت وحلمنا ونحلم به، ونحن على دربه سائرون. * رئيس الحكومة اللبنانية سابقاً، رئيس «كتلة المستقبل» في البرلمان اللبناني