امتزجت روائح البخور وأزهار المنتور والأوركيديا البيضاء التي أحاطت بنعش الوزير والنائب السابق نسيب لحود المسجى في وسط كاتدرائية مار جرجس للموارنة في وسط بيروت، لتضفي على الحزن المخيم على حضور فاض عن القاعة الى جوارها، طعماً اكثر مرارة. فنسيب لحود الذي أجمع من رثاه على انه من «طينة أخرى» عن اولئك السياسيين الذين عرفهم لبنان، هو بإجماعهم «رئيس جمهورية احلامنا»، وهي عبارة حملتها صورة ضخمة علقت في الباحة الخارجية للكاتدرائية. رحل بعد صراع مع المرض، عجز الوزير السابق والمفكر السياسي غسان سلامة، الذي حضر من باريس خصيصاً للمشاركة في تشييعه، عن وصف مقدار وجعه، فبكى الساعات التي رافق فيها هذا الوجع يوماً بيوم في فرنسا قبل ان يعود الى بيروت، حيث قال البطريرك الماروني بشارة الراعي انه «أجهد نفسه» لزيارته في بكركي فكانت زيارة «تهنئة ووداع»، وبكى بدوره رجلاً قال عنه في رثائه «انه امثولة بالنزاهة السياسية». والمأتم الرسمي والعائلي الذي اقيم أمس في بيروت قبل ان يتواصل في مسقطه بعبدات حيث ووري، جمع حول الفقيد محبيه ومسؤولين سياسين وديبلوماسيين وحزبيين ومناصريه في «حركة التجدد الديموقراطي» ومن الذين يؤمنون مثله بأهمية المجتمع المدني، الى جانب والدته الثكلى وأرملته واولاده والاقارب. وفيما حضر الرئيس السابق للجمهورية اميل لحود الى صالون الكاتدرائية مقدماً التعازي الى العائلة وغادرها من دون حضور الجناز، حضر مراسم الجنازة رئيس الحكومة نجيب ميقاتي ممثلاً رئيس الجمهورية ميشال سليمان وممثلاً نفسه فيما مثّل النائب عبداللطيف الزين رئيس المجلس النيابي نبيه بري. ومن أبرز الحضور الرئيس أمين الجميل وزوجته والرئيس السابق للمجلس النيابي حسين الحسيني ورئيس كتلة «المستقبل» النيابية فؤاد السنيورة وزوجته وحشد من نواب الكتلة، ونائب رئيس المجلس النيابي فريد مكاري ونائب رئيس مجلس الوزراء سمير مقبل ونادر الحريري ممثلاً الرئيس السابق للحكومة سعد الحريري والوزراء: غازي العريضي ومحمد الصفدي وناظم الخوري ونقولا نحاس وشكيب قرطباوي ووائل أبو فاعور وعلاء الدين ترو. ومثّل العميد فؤاد هيدموس وزير الدفاع فايز غصن وقائد الجيش العماد جان قهوجي. وحضر رئيس «جبهة النضال الوطني» النيابية وليد جنبلاط باكراً مع زوجته وابنه تيمور وقياديين في الحزب «التقدمي الاشتراكي»، كما حضر رئيس حزب «القوات اللبنانية» سمير جعجع، ورئيس حزب «الوطنيين الاحرار» النائب دوري شمعون ووزراء سابقون بينهم: بطرس حرب ومروان حمادة وتمام سلام وميشال فرعون وميشال اده ومخايل الضاهر ونايلة معوض وطارق متري وحسن منيمنة وزياد بارود وابراهيم نجار وخالد قباني وعدنان قصار وابراهيم شمس الدين وفريد هيكل الخازن، وحضر من كتلة «التنمية والتحرير» النيابية: ياسين جابر وميشال موسى، كما حضر اعضاء من تكتل «التغيير والاصلاح» النيابي: غسان مخيبر وسليم سلهب واميل رحمة، وغابت معظم وجوه «التيار الوطني الحر» في التكتل باستثناء ادغار معلوف وقرطباوي. كما حضرت النائب السابقة صولانج الجميل وسفراء: السلطة الفلسطينية أشرف دبور ممثلاً الرئيس الفلسطيني محمود عباس يرافقه امين سر فصائل منظمة التحرير الفلسطينية فتحي ابو العردات، المملكة العربية السعودية علي بن عواض عسيري، الولاياتالمتحدة مورا كونيللي، فرنسا دوني بييتون، السفير البابوي غبريال كاتشيا والاتحاد الاوروبي انجيلينا ايخهوريست، وحضر رجل الدين السيد علي الأمين ورياض الاسعد والامين العام في «تيار المستقبل» أحمد الحريري، واعضاء الامانة العامة ل»قوى 14 اذار» برئاسة فارس سعيد وشخصيات ثقافية واجتماعية واعلامية. وسام الارز الوطني وبعد الصلاة وتلاوة الرقيم البطريركي (في مكان آخر)، أعلن ميقاتي باسم رئيس الجمهورية منح الفقيد وسام الارز الوطني من رتبة ضابط اكبر تقديراً «لعطاءاتك من أجل لبنان»، وتقدم من النعش لتقليد الوسام وقال بتأثر واضح: «أنحني إجلالاً لرجل كان مثالاً للقيم الوطنية والاخلاق العالية». كلمات وفيما تقبلت العائلة التعازي، توجه الحضور الى الباحة الخارجية للكاتدرائية وامام منصة رفعت خلفها صورة لحود 1944 - 2012، توالت كلمات ثلاث نعت الفقيد من صديقه الوزير السابق غسان سلامة ومن نائب رئيس حركة «التجدد الديموقراطي» كميل زيادة ومسؤول قطاع الشباب في الحركة أيمن مهنا. وقال سلامة: «كان صادقاً مع الناس، ان خوطب صدق، ان قال عنه ان هو حب وفى واذ تعهد نفذ، كان موقفه المعلن هو رأيه المضمر، وفي كل مقام كان له المقال نفسه وكان رأيه واضحاً صريحاً وشفافاً، فإن عجز الآخرون عن سماعه كان الصمت ملجأه وكانت نظرة واحدة منه تردع المخادعين والمتملقين». واضاف: «كان صادقاً مع كل واحد منا وكان في الاساس صادقاً مع نفسه لا يسمح لذهنه النقي ببداية توهم ولا يدخل في تقييمه شيئاً من تحيز ولا يرضى لعواطفه ان تنافس عقله ولا لأحاسيسه ان تمس ضميره. كان حاسماً بلا تهور وحازماً بلا قسوة وعازماً بلا تردد فما خاف يوماً من التفرد برأي ولا من مخالفة السائد من الافكار، وكان صاحب همة بقدر ما كان صاحب حجة، فإن اقتنع بأمر اندفع لتحقيقه دون كسل وأصر على تنفيذه دون تمهل وما زادته نوائب الدهر الا اصراراً على الفعل فإن ورث ديوناً انشأ مؤسسة وان خانته السياسة زاد تمسكاً بضرورة اصلاحها وان فاته أمر تفاقم عطش المعرفة لديه وان واجه عقبة اعتبرها تحدياً مضافاً لا عذراً للتراجع. كان مقداماً وكان الشجاعة نفسها وشجاعته كانت مضرباً للمثل». وتحدث عن ادراك الراحل «للجذور وانما كان مصراً على التحديث وكان يرى الطوائف ولكنه ينبذ الطائفية. كان يعرف الافراد ولكنه يعمل في سبيل المؤسسات، فكان في لبنان مرشح الناس وكان في العالم الاوسع من طينة اللبنانيين الذين يثق محبو هذا الوطن باستقامتهم وبحنكتهم وبقدرتهم... برحيلك فقد لبنان فيك رجلاً عشق وطنه كما نذر وعمل في سبيله من دون كلل متجاوزاً عثرات العمر متناسياً خيبات الزمن متعامياً عن قلة الانصاف وكان لم ينظر يوما لتلك المناصب كمراتب تشريف بل كأدوات للعمل والخدمة». «حركة التجدد» وقال زيادة عن صداقة «ادمنت عليها معه اكثر من نصف قرن»، انه «صاحب مدرسة، هي مدرسة المبادئ والمعايير والمناقب والاخلاق السياسية، والسياسة بمعناها الضيق والمتعارف عليها في لبنان اي الانخراط المباشر في الصراع على السلطة فكانت بالنسبة اليه مجرد وسيلة لتطبيق هذه القواعد والمبادئ». وتحدث عن دفاع نسيب لحود عن «الحريات، حرية الاخصام والمختلفين كما حرية الحلفاء والمتطابقين، وعماد مدرسته الدفاع عن الدستور والمؤسسات والعيش المشترك ووحدة لبنان وسيادته واستقلاله وعن العدالة الاجتماعية والاقتصاد المزدهر المنفتح على العالم». وقال انه آمن «بحتمية قدوم الربيع العربي وتحرر الانسان العربي من قيود الخوف والاستبداد والظلم والقهر وقيام نهضة عربية حديثة يكون لبنان احد روادها ومراكز اشعاعها». واضاف زيادة: «لمن يسأل عن مستقبل حركة التجدد بعد رحيل نسيب لحود سواء من موقع الحرص ام التشكيك نجيب ان هناك تصميماً قاطعاً على استكمال بنائها والتشبث بدورها الذي نؤمن انه طليعي في معركة بناء الثقافة الديموقراطية وترسيخ قواعد الممارسة الديموقراطية التي كرس نسيب لحود حياته السياسية من اجلها». اما مهنا فقال: «مهيب ومربك في لحظة الوداع لشبه غيابه أن نخرج عن طاعته، فنسمح لنفسنا بما لم يكن ليسمح به. أخاله يعاتبنا، ولو متفهماً، على وجومنا حيال هذا السفر المفاجئ. أهو أول سفر له؟ وقد حفلت حياته بأسفار وراء أهداف، حقق بعضها وسنحقق البعض الآخر. وكما أعرفه، سيعاتبني إن استرسلت طويلا في الذكرى وغرقت عميقا في الحنين. وصوته الدافئ يردد: لا وقت للأسف. لا وقت للحنين». «أتى من الغد» وقال: «نسيب لحود رجل أتى من الغد. سافر بالإتجاه المعاكس عبر الزمن، دونما حاجة إلى مركبات مجنحة كأبطال القصص الخرافية. لكنه مثلهم، صنع المستحيل، وابتكر نوعاً جديداً من الانتماء. في لبنان، ينتمي الناس عادة إلى أحزاب ومجموعات، وفاء لمآثر مؤسسها أو التزاما بتقليد عائليٍ قديم. ينتمي الناس إلى أحزاب ومجموعات، لاستعادة أمجاد غابرة، أو للحفاظ على مكتسبات تاريخية. وكان هناك شابات وشباب، من مناطق مختلفة، من طوائف تصارع أمراؤها، من عائلات تعددت خلفياتها الفكرية، رسبوا في امتحان الانتماء اللبناني الماضوي التقليدي. ومن ثم تعرفوا إلى نسيب لحود. حدسهم قادهم إليه. عرفوا أنه أتى من عصر ينبذ فيه الشعب كل شعبوي. كلُّ سياسيٍّ هناك يدرُسُ ملفاتِه بدقّة إلى جانب فريقِ عملٍ مختص. في عصر نسيب لحود يوسَمُ بالعارِ كلُّ من سخّرَ المصلحةَ العامة من أجل مآربِه الشخصية». واضاف: «في الزمن الذي أتى منه نسيب لحود، لبنان دولة طبيعية. سيّدة؟ طبعاً. مستقلّة؟ أكيد. يسكنها مواطنون تحرّروا منذ عهود من سجنِ الطوائف ونارِ نزاعاتها. وفي عصره فلسطين مستقلة وسورية حرّة، والعالم العربي الأوسع يتنفّس نسيم الربيع بملء رئتيه». وأشار الى اللوحة المعلقة وقال: «يبتسمُ شبابُ التجدد عندَ قراءةِ لقب «رئيس جمهورية الأحلام». لأنهم يعرفون أنّه، على جماله، شعار خاطئ. فالجمهورية التي يرأسها نسيب لحود موجودة، هي واقع، إنما في الغد الذي عاد إليه منذ يومين، ذهب مهندس الجمهورية عن عصرنا هذا قبل إتمام العديد من الجسور على تلك الدرب. حان دورنا لإكمال البناء، ذهب لكنه سيطل من بعيد، ليلقي التحية على النائب الذي يجرأ على الدفاع عن الدستور لحظة الشدائد، وعلى المشرّع الذي يقر إصلاح قانون الانتخابات، وقوانين الاحوال الشخصية، وقوانين التمييز ضدَّ المرأة، وعلى المسؤول الذي يسهمُ في إخراجِ لبنان من دوّامة الدين والعجز والفقر، وعلى الحزب الذي يختار الدولة كنفاً لقوته، وعلى الثائر العربي الذي يحلم بالحرية».