يخيل إليك وأنت تقرأ رواية فوزية شويش السالم الصادرة عن دار العين في القاهرة أنّ عالماً بأكمله هو البطل. عالمٌ من الظلام هو عالم «البدون» في الكويت مقابل عالم من النور هو عالم الناس الأصيلين، ولكنه عالم واحد في الواقع كالليل والنهار يشكلان يوماً كاملاً، لذا كان عنوان روايتها «سلالم النهار»، ولعله كناية عن صعود بعض الناس من عالم فاقدي الهوية بما في ذلك الفقر والمعاناة إلى عالم أصحاب الأموال وإنْ لم ينالوا الهوية، فيكونون قد تسلقوا السلالم إلى الضوء والعيش المترف ولكن ليس النزيه، أو قد يكون عنوانها تعبيراً عن صعود بطلتها فهْدَة من عالم البدون والفقر إلى عالم الأصيلين «ذوي الدم الأزرق» قبل أن تفهم أنّ النور الحقيقي هو اتباع طريق الله كرابعة العدوية أو غيرها، ممن نذروا النفس له وعرفوا حلاوة التسليم لمشيئته واستغنوا عن كل ما عداه. فهْدَة ستعيش زمناً قليلاً هذا الإحساس الصوفي الجميل قبل أن تعود إلى حياتها السابقة بقالب آخر، تتحول فيه شيخة تهدي الناس، ولكن برأينا، ما وصلت إليه هو عبورها من الإيمان الفطري الذي يعرفه الناس العائشون بأقل ما يمكن الراضون بما عندهم، إلى غلبة الطقوس الجامدة والوعظ بالثواب والعقاب كالذي يعيشه الناس المترفون الذين تصل إليهم حاجاتهم وأكثر، حتى عندهم. وما يعذر فهدة في تركها الحالة الأولى إلى الثانية هو اكتشافها حملها وضرورة تربية الطفل. قد تبدو فهْدَة البطلة المتكلمة باسم هذا العالم الذي تراه وتعيش فيه، ولكن لا، فهناك أبطال عدة يمرون وكلهم شخصيات رئيسة في هذه الرواية، وإن كان حظ فهدة وولدها هو الأعظم فيها. فكل شخصية تمثل حالة من هذا العالم أرادت المؤلفة إبرازها لتشرح حالاً عامة تسود ليس في بلدها وحسب، برأينا، بل في العالم كله. عالم صعود «حثالة الناس» على سلالم من يُظنّ أنهم أرقى الناس، لحاجة الفئة الثانية إلى الفئة الأولى لتنفذ «الأعمال الوسخة» والعقوبات في السجن. فحين ينفضح المستور لا ينفضح كله، بل تُكشف طبقة سطحية منه، أي يظهر رأس الجبل، فيٍُقبض على صغار المهربين واللصوص، وتجار المخدرات أو البشر، أو مروجي البضائع الفاسدة، ويبقى الكبار بمنأى عن التشهير بهم. هذا العالم المملوء بالأبطال لضرورة الصراع، صراع كلٍّ منهم من أجل اللقمة والطفو على سطح المستنقع، نقصته في مواضع معينة صلات وصل صغيرة تمتن السرد وتقوّي حبكة الرواية، التي لا يمكن وصفها إلا بالجميلة في حدود ما أتقنت المؤلفة وصف كلٍّ من العالمين، عالم البدون وعالم الأصيلين والعصر عموماً، ولحظات المتعة الجسدية والإشراقات الصوفية، وحالة امرأة تمر بكل هذه الحالات. خلافاً لما عهدناه من روايات تروي بطلاتها معاناتهن في الزواج والحرمان الجنسي، نجد هنا امرأة مُشتهاة جداً ومكتفية جنسياً، ولكنها تعاني فراغاً تظنّ أنه جوع دائم مصدره الفقر والحرمان حتى نفهم أنها تعاني حرماناً نفسياً من الهوية والإحساس بإنسانيتها، وحتى تفهم هي لاحقاً بعد موت زوجها الغني فجأة، أنّ جوعها كان إلى الله، كان «جوع الروح». فهْدَة الجميلة جداً، الوردة الطالعة من عالم آسن، لكن له قوانينه الصارمة جداً التي لا تفرّط «بشرف الفتاة» تتزوج «ضاري» سراً، زواجاً يحصل بين مثيلاتها والشبان الأغنياء، لا يترتب فيه الشيء الكثير على الزوج ولكنه حلم بنظرها ونظر أهلها ولو دام لحظات، لأنه سيحوّل حياة الأسرة، ويضمن مستقبلها، والفتاة ليست إلا وقوداً. فهدة أسعفتها الصدفة لكي تخرق طبقة الأغنياء وتبقى جزءاً منها ولو جزءاً نافراً، بحَمْلٍ لم تخطط له، بَانَ بعد موت زوجها ابن الأسرة الغنية، فاعترفت الأسرة بالولد. هذا الولد الذي سيعيش التجاذب بين العالمين: بين أخواله فاقدي الهوية وعمّه جاسم المسيطر على الكثير من الأعمال المربحة، وسيكتشف تشابه العالمين في نهش لحوم البشر والتحايل على القانون والربح غير المشروع، كلّ على طريقته ووفق ما تطال يده، عالمان هما وجهان لعملة واحدة، لا يلتقيان عادة، إلا لماماً. فكما نفهم من وصف الصبي، جدتاه أم جاسم (أم أبيه) وأم بطاح (أم أمه) لا تلتقيان أبداً، ولكنهما تتشابهان في استغلال «الناس لمآربهما». أما في عالم الرجال فيتقابل وجها العملة ويتبادلان المنافع: خاله مرداس رمز المثقف شبه الملحد، يغطي «وسخ» عمه جاسم في الجريدة، يمدحه ويشهّر بخصومه، ويصنع لنفسه ربحاً بطرق عدة شبيهة بالتي يستعملها عمه، وأبو الكلام الذي كان يلتقط النفايات البلاستيكية يصير «مستورد» عمال آسيويين، أما الكفيل فهو جاسم، هكذا نلاحظ أنّ الفروق تبقى وإنْ امتدت الجسور بين العالمين لزوم المصالح الاقتصادية. هذا الزيف هو ما يتمنّى الولد أن يفضحه، هذا «البطل الثاني» بعد أمه الذي يتبادل معها دور الراوي في الرواية، فيأخذ عنها دفة الكلام أحياناً، ليصف الأحوال من وجهة نظره. هذا المؤمن ب «القوة» الرافض أن يأكل القوي حق الضعيف، هذا المصاب بالغثيان، مما يكتشفه، لا يتأخر عن إدانة ما يراه وهو ما لم تفعله أمه قبله، إذ كانت ترى هذا العالم الحسّي الشهواني الذي تعيش فيه بنظرة الشاهد على عصره، لا المشجع ولا المدين، المنساق لا الفاعل، هذا الصبي صلة الوصل بين العالمين تتمناه المؤلفة في النهاية رمزَ التغيير، فهل سيحصل ذلك حقاً؟