أثارت مقالة زياد الدريس في صحيفة «الحياة» عن توجهات الخطاب السلفي الكثير من الحديث والردود بين مؤيدٍ ومعارض، وحديثنا هنا لا ينطلق من ندوات أو مؤتمرات عقدت أو ستعقد فتقويم الندوات ينشأ عن السياق المطروح فيها للمسار العلمي والوطني في تحديد مفاهيم السلفية إيجاباً أو تحويراً سلبياً، وإنما تعاطينا هنا مع عموم القضية وأين الإشكال فيها على صعيد الفكر أو الممارسة، ولكن من المهم الإشارة لأصداء المقال التي أوضحت أيضاً أن فريقاً من الرأي العام بل وبعض المسؤولين ليست لديهم قناعة ولا منهجية واضحة تتحد مع الرؤية التي يتبناها قطاع المثقفين الإصلاحيين وطلبة العلم الشرعي المتوازنين من قضية دمج السلفية العلمية ضمن المرجعية الطبيعية لها تاريخياً ووحدوياً ومنهجياً وهي مدرسة أهل السنّة الكبرى وهو متوافق مع ما أعلنه الملك عبدالعزيز في خطاب مكة الشهير بأن دعوة الإمام محمد بن عبدالوهاب تنتمي للمذاهب الأربعة وهي المنهجية التي اُعتبرت قرارات الملك مؤسسة لها حين أُعلن عن اعتبار المذاهب الأربعة ضمن توجهات التشريع المستقبلي للمملكة كركيزة وحدوية داخلية وخارجية مع العالم السني الواسع وكتكثيف لقواعد الاستنباط المقاصدي الإسلامي لقضايا العصر التي تتفق مع قواعد الشريعة وتقدم الحركة الإنسانية للمواطن حقوقياً وتنموياً. ولعل تعثّر هذا التشريع كان من أسبابه هذا الاضطراب في فهم المنهج المعتدل الذي يضع المدرسة السلفية ضمن سياق الاجتهادات السنية لا مستقلة عنها مع الإدراك بأن ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه محل التزام واقتداء واهتداء من كل المدارس السُنيّة إنما برز اجتهاد المدارس في قضية مدارك الفهم ودلالات اللفظ أو ثبوته لديهم بين مقاصد التشريع ودلالة التفريع في ظواهر النص أو الاستنباط عبر معرفة اتصال أو انفصال النص عن هذه المقاصد وعموميات الكتاب والسنة، الذي لا تختلف مدارس التشريع السُنية على قطعياتها، وإنما كان الخلاف في فهم دلالات النص لحكمة ربانية للاستخلاف وهو ما جعل عمر بن عبد العزيز يقول لم أحب أنّ أصحاب رسول الله لم يختلفوا – أي في الاجتهاد – فخلافهم سعة، وهو الذي وسّع ثروة الفقه الإسلامي ومنهجية الإفادة منه في كل زمان أو مكان من دون أن تُسقط حدود الشرع أو تُذاب في آلية التقنين إنما يُفيد التقنين من ثروتها ويلتزم قطعياتها وحدودها. وليس المقصود من هذا التوسع في فقه السُنّة الشرعي إقصاء السلفية العلمية المنضبطة ولا إدانة سلوكها، فهي شريك مهم للاستدلال، ولا حتى التنقيص من السلوك المظهري من حيث تطبيق ما يرونه سُنّة كحق شرعي لهم مقر اجتماعياً ووطنياً وهم كذلك في حالة اندماج لا فرز بين بناء الوطن الجغرافي والاجتماعي، لكن المشكلة هي أن تُدفع بعض أطراف هذه الحالة إلى مصادمة المواطنين أو المدارس الأخرى عبر منهج يعتمد على التضليل للمختلف السُني أو الإسقاط الكامل أو التحريض على المختلف في الإطار الاجتهادي الفقهي أو معالجة الموقف من المختلف معه فكرياً بالعنف المدني الذي يُربّي أولئك الشباب على الاعتقاد بأنهم جزيرة معزولة عليها أن تقاتل بقية الجزر في محيط الوطن وتسعى لعزلها وتعتقد أنّ لها ولاية وصاية للمواطنة تخصّها من دون سواها وكل المواطنين الذين لا يقرون بهذه الوصاية مواطنتهم منقوصة وهم تحت الذم والطعن والتحريض. وكذلك الأمر في الطرف الآخر الذي يمارس التكفير المدني في مقابل التكفير الديني حيث يُشرّع مطاردة السلفيين أو خنقهم وحرمانهم من أي شراكة بناءً على ذلك الفرز، ونحن ندرك وجود تطرف عنيف من كلا الاتجاهين، وحيث إن هذا المقال يعالج قضية تحويل السلفية كمنهج استدلال علمي وسلوك شخصي إلى سلفية طائفية تستبيح من سواها عقيدةً وتشريعاً وتعاملاً وأخلاقاً نركز على هذا الاتجاه، فليست القضية الاعتناء بمفهوم السلفية في إطارها العلمي ولا تميزها التشريعي عند من يعتقدون ذلك، لكن الكارثة هي أن تُخلق منها أداة مطاردة للمختلف وإلزامه بقولها أو التحريض عليه، في حين كان منهج التسامح المُقّر في أصل الشريعة وفي سُنّة النبي صلى الله عليه وسلم برنامج رشاد واستقرار ونهضة للمدارس المذهبية التي سادت متخذة من تنوع الاختلاف الاجتهادي برنامج إثراء لا إقصاء ومنهجية حوار لا حصار، ولقد اخفت صورة تداول الاختلاف العنيف الذي ينقله البعض عن نماذج محصورة أو مبتورة من السلف منهجاً مضيئاً كاملاً للغالبية من علماء الأمة، في قبول الاجتهاد الآخر أو نقاشه وأحياناً بحدة لكن لا يمنعهم من الإحسان والتواصل والتراضي مع مخالفيهم. ولقد شهدت الساحة الوطنية لدينا حركة وعي متقدمة لأبناء التيار السلفي التحمت مع الحراك الوطني والفقه المجتمعي للتقدم بالوطن وصيانة علاقاته الأخوية والتنموية، والمفترض أن هذا التوجه الذي ارقبه يومياً من شبابنا السلفي الواعي يتعزز في ندوات حوار ومؤتمرات إصلاح تجسّد هذا التوافق الإسلامي الوطني الجميل، ولستُ افهم كيف يكون مشروعاً وطنياً أن يُفرز نخبة من الناس لتُبنى لهم مواطنة وصاية تجعل مساحة الخلاف بين أبناء الوطن تتسع، في حين تعبر مفاهيم التشريع الإسلامي السني الكبير إلى معنى شراكة وإخوة وتبادل للفكر والثقافة تجمع أبناء نجد والأحساء والحجاز والجنوب والشمال في هذه الخيمة الكبيرة التي هي أصلاً كانت طوال القرون ركيزة التشريع الإسلامي لدى الأمة فيتحد الوطن بين أركانه وأطيافه ويتحد مع عمقه العربي والإسلامي... ألسنا اليوم أحوج لهذا؟ * كاتب سعودي. [email protected]