كنت دائماً أدرس الرياضيات، وفي ما بعد أكتب المواضيع الثقافية والأدبية على خلفية من الموسيقى الكلاسيكية. وها أنذا أكتب هذه الكلمة عن ماتيلد على خلفية من السمفونية الثامنة لأنتون بروكنز (ساعة ونصف). أنا الآن أكتب كلمة عن أحب البطلات الروائية إليّ، على خلفية من أحب السمفونيات إليّ. أنا لم أعد أميل كثيراً الى الموسيقى السمفونية. لكنني أستثني منها سمفونيات بروكنز التي تتركني في خدر «فلسفي»، إذا جاز القول. هذا مع أنني ربما كنت في حاجة الى خلفية من موسيقى رومانسية (باغانيني؟ شوبان؟ فاغنر؟ فرانز لست؟ وربما أيضاً مانويل دي فايا؟) هل كنت أعني «أمسيات في جنائن إسبانيا» ذات النفس الرومانسي المذهل؟ آه، لا، لا أعتقد ان أياً من هذه كلها، بما فيها سمفونية بروكنز الرائعة (لماذا لا يعتبرون بروكنز من بين الموسيقيين الجرمانيين الكبار؟) تصلح كخلفية للحديث عن ماتيلد؟ لكن من هي ماتيلد؟ كنت أحسب انها أشهر من نار على علم، لذلك اكتفيت بذكر إسمها فقط بلا تعريف. تعرفت إليها أول الأمر في الترجمة المصرية «سلسلة الألف كتاب» لرواية «الأحمر والأسود» لستندال. أية سعادة في قراءة هذه الرواية. كانت حدثاً أدبياً في عالمنا (كان ذلك في الخمسينات من القرن الماضي). وكان أصدقائي يفضلون مدام دي رينال (البطلة الأخرى) عليها. حسيّون، لأن مدام دي رينال تحقق لذة جنسية لجوليان سوريل، على رغم ورعها وتقواها وإحساسها بالخطيئة. أما ماتيلد فكانت تحقق لذة شعرية لجوليان وللقراء. هل هناك شيء أسمى من الشعر؟ كانت ماتيلد كذلك. لعلني أكون أقرب الى ما أريد، إذا قلت لذة رومانسية. لكن بالمعنى الرومانسي العالي، المتسامي. فماتيلد، عندي، أروع بطلة روائية رومانسية. إنها مخلوقة لا تلمس، بل يُنظر إليها عن كثب، مع ان ستندال جعل منها مخلوقة تحب وترتمي في أحضان محبها، لكن بعد ان تجده أحق من كل الشباب الأرستقراطيين المتمتعين بكل المؤهلات العالية. أنا لم أرتض لها أن تستجيب لجوليان سوريل، على رغم انه من أروع الأبطال الروائيين، وأكثرهم جدارة بالإعجاب. كنت أعتبرها بطلة فوق الحب، لأنها بطلة «مجنونة». وجنونها هذا جعل منها مخلوقة فوق الجميع. الى جانب جنونها هناك جمالها الآسر. والمرأة الجميلة جداً يمكن ان تكون أروع شيء في الوجود. وهكذا كانت ماتيلد. لكن، لماذا استهل ستندال القسم الثاني من روايته «كتاب ماتيلد» بهذه الكلمات لسانت بيف: «إنها ليست جميلة، إنها بلا ماكياج». فكما أعتقد ان ستندال لم يذكر أي ماكياج في شأن ماتيلد. وعلى أية حال، ينبغي ألا ننسى ان ستندال جعل الرواية رواية جوليان سوريل وليس ماتيلد دي لا مول. وجوليان سوريل، إبن النجار (أو صاحب منشرة)، كان وسيماً وذكياً، يتقن اللاتينية على أتم ما يكون، ويحفظ الإنجيل عن ظهر قلب، مع انه ليس قساً. هذا الشاب دخل عالم الماركيز دي لا مول، والد ماتيلد، عندما أصبح سكرتيراً له، مع حق ان يكون له خادم، وأن يتناول طعامه على المائدة مع العائلة. انه يحتفظ بكبريائه، على رغم وضاعة نسبه. ولنصغ الى انطباع جوليان سوريل الأول عن ماتيلد، عندما كان مع العائلة على المائدة: «وفي الوقت نفسه تقريباً لاحظ فتاة شابة، لها شعر أشقر باهت جداً، وقوام جميل، جاءت واتخذت مقعدها مقابله. لم يجدها، على أية حال، مريحة. لكنه عندما أمعن النظر فيها، خُيل إليه انه لم يجد عينين بمثل جمال عينيها، لكنهما كانتا تنطقان ببرود لا مثيل له. وفيما بعد أيقن انهما تعبران عن السأم والبرم من أي كائن آخر، لكنها في الوقت نفسه كانت تجد نفسها ملزمة بأن تثير إعجاب الآخرين». ونقرأ أيضاً انها كانت أجمل فتاة في باريس. وانها كانت «سيدة» عائلة الماركيز دي لا مول، بفضل جمالها الخارق وذكائها وسأمها. لم تكن تحفل بأي شيء. وكانت تعيش في عالمها، وتقرأ فولتير وجان جاك روسو. سأنتقل في ما بعد الى شخصية ماتيلد الرومانسية الخارقة في رومانسيتها. لكنني لم أنته بعد من الحديث عن جمال هذه الشابة. في اللقاء في أفخم صالة في باريس، لم تقاوم ماتيلد الرغبة في التثاؤب. لكن جوليان كان يُصغي الى حديث بين شباب عن فتاة مذهلة في جمالها. قال أحد المتحدثين: «يتعين عليك ان تعترف بأنها ملكة الصالة». وقال آخر: «إن المادموازيل فورمون، التي كانت تعتبر أكثرهم فتنة في الشتاء الماضي، تدرك جيداً انها أصبحت في المرتبة الثانية». وقال آخر: «وتلكما العينان الزرقاوان الواسعتان اللتان تذهلانك عندما تنظران الى أسفل». ثم قال آخر: «ومن يكون جديراً بماتيلد الرفيعة الشأن سوى ملك، وسيم، وذكي، وبطل في المعارك، ولا يتجاوز العشرين من عمره». لكنها كانت تبحث عن جوليان الذي طلبت منه حضور هذه الحفلة. هكذا أراد ستندال ان يُعلي من شأن جوليان، ويجعل ماتيلد معجبة به. «إنه على الأقل ليس كالآخرين». وسر «تكبره» عليها يكمن في بروده تجاهها. كان يتصرف معها بأعلى درجات البرود. ثم انه أسرها بأفكاره الثورية التي حذرها منها شقيقها. لكن هذه الفتاة، التي دوخت شبيبة عالمها الأرستقراطي، بجمالها الخارق، مجنونة في نزعتها الرومانسية. ويتجسد سلوكها الرومانسي الصارخ في ارتدائها السواد، من دون الآخرين من أفراد عائلتها، في يوم معين من أيام السنة حداداً على أمير شاب من أجدادها قُطع رأسه لأسباب سياسية: «أنا لا أرى شرفاً يُنعم على رجل أفضل من الحكم بالموت، الشيء الوحيد الذي لا يُشترى». جنونها هذا جعلها، في رأيي، فوق الآخرين، وفوق الحب. لكنني سأكون هنا متطرفاً في مثاليتي. ثم ان الرواية هي رواية جوليان سوريل وليس ماتيلد. فلا بد من ان تقع في حبه. لكنها، مع ذلك، تبقى مجنونة حتى في حبّها. ان «الأحمر والأسود» هي رواية عن ستندال في حبه المجهض في الواقع، والمتحقق في رواية. فجوليان سوريل يمكن ان يكون ستندال، في شكل من الأشكال. فقد أضفى ستندال على جوليان مزاياه الشخصية، وحقده على السلطة والأبوة، وزهوه العصابي، وحساسيته المرهفة. لكن جوليان لم يتمتع بمرح ستندال المعروف، ولا بنفوره من الرياء، وفهمه الصارم لنفسه، كما تقول ستورم جيمسون. ولما كانت «الأحمر والأسود» هي عن حلم ستندال، فهي رواية حب بامتياز. هناك شخصيتان نسائيتان نشأت بينهما وبين جوليان علاقة حب. الأولى هي مدام دي رينال زوجة العمدة الذي كان جوليان يعلّم أولاده، والثانية هي ماتيلد. مع مدام دي رينال كانت العلاقة طبيعية وممكنة: سيدة جميلة لها ثلاثة أولاد يعلمهم شاب يصغرها بأكثر من عشر سنوات. في الحياة الواقعية، وفي عالم الرواية، مثل هذه العلاقة ليس مستبعداً. أما بين جوليان «العامي» محتداً، وبين ماتيلد «الملكة»، فكيف يمكن ان تنشأ علاقة حب؟ هنا شيء من الصنعة. ماتيلد صنيعة ستندال، على خلاف مدام دي رينال. ماتيلد شخصية روائية أكثر منها واقعية. لكننا كنا نتقبلها تماماً كشخصية واقعية بفضل طرح ستندال البارع: «أية حياة فاقعة سأحياها مع مخلوق مثل (الماركيز) كرواسنوا... من أين تأتيني السعادة، أضافت بأسى، إذا لم أجدها بعد غياب ستة أشهر في حفلة تحرك غيرة كل النساء في باريس؟ ومع ذلك أنا مطوقة بولاء جماعة ليس ثمة أرفع منها شأناً (...) وأية حظوظ لم يهبني إياها القدر! سمعة كبيرة، وثراء، وشباب – كل شيء، باختصار، لكن السعادة!» وتقول أيضاً: «أنا لدي كل المؤهلات التي كانت مدام دي ستايل مستعدة للتضحية بكل شيء من أجلها – ومع ذلك تبقى الحقيقة هي انني سئمة الى حد الموت». السأم هو ظاهرة يعاني منها من هم على غير وئام مع الواقع، أو المحيط الذي يوجد فيه المرء. والسأم هو ظاهرة «ثقافية». وكان جوليان، الشاب المتقد ذكاء، والملمّ بفنون المعرفة، أي المثقف، والمعتد بنفسه وبمعارفه الثقافية، مؤهلاً لأن ينال إعجاب ماتيلد. فترسل اليه بيد أحد الخدم رسالة حب. هكذا أجبرها الحب على ان تتنازل عن كل كبريائها وشممها وإبائها... لكن هذه الفرس الجموح ستعيش حالات من الندم القاتل لأنها أحبت كائناً لا يستحقها. ويتعذب جوليان في علاقته مع هذه الفتاة الصعبة المراس، الى حد أذاقته أفظع فنون الازدراء. إلا انه يتلقى نصيحة من ديبلوماسي روسي من بين المترددين على قصر الماركيز بإهمالها والتظاهر بحب غيرها. وعند ذاك يفلح في استعادة حبها. انها لمعادلة عجيبة: أحبك عندما تصدّ عني، وأصدّ عنك عندما تتقرب إلي. وتحبل منه. هذه «الملكة» تحبل من مخلوق «عامي». لكنها لم تندم على حبلها منه، بل تفتخر بذلك، وتتحدى طبقتها، وتنشد من أبيها المحب مغفرة واعترافاً بحبها. وهنا يحصل شيء غير متوقع. تصل رسالة من مدام دي رينال الى الماركيز تحط فيها من شأن جوليان، وتنعته بأرذل نعوت الغدر والإغواء ونكران الجميل. فيعلم جوليان بخبر هذه الرسالة، ويذهب الى الكنيسة التي تحضرها مدام دي رينال، ثم يسدد إليها طلقات نجت منها في ما بعد. ويحكم على جوليان بالموت تحت المقصلة، لأنه يرفض التوقيع على طلب باستئناف الحكم. كان ستندال يريد إعدام جوليان ليستنسخ بذلك حدثاً شاع خبره في الصحف قبل ذلك، مثلما استنسخ تولستوي في ما بعد قصة انتحار آنا كارانينا تحت عجلات القطار. ربما كان الموت نهاية معقولة، لكن غير مبررة لجوليان. ربما تبنى ستندال هذه النهاية لكي تحمل ماتيلد رأس جوليان في حضنها، وهي في طريق عودتها بالمركبة من مكان الإعدام، ليكرر - ستندال - قصة مقتل بونيفاس دي لا مول، الذي كانت تلبس ماتيلد ثياب الحداد عليه في يوم مقتله. هذا على رغم ان جوليان يتنكر لحب ماتيلد ويعود الى حب مدام دي رينال التي يقول لها عندما زارته في السجن: «دعيني أقل لك إنني أحببتك دائماً، وإنني لم أحب إمرأة سواك». بل انه أراد ان تربي مدام دي رينال إبنه الذي ستلده ماتيلد. فأي جحود هذا! أنا أعود فأقول ان ماتيلد كانت فوق كل شيء، وفوق مستوى جوليان الذي لا يستحق حبها. أنا نصير لماتيلد، ولست متعاطفاً مع جوليان. ولم يُحزنّي موت جوليان بقدر تضحية ماتيلد التي ضيعت كل شيء. (كنت أريد ان أكتب أكثر عن ماتيلد، ولماذا يشغل الأبطال الروائيون اهتمامنا، لكن الحيز المتاح لهذه الكلمة لا يكفي لذلك).