«أحلام عولمية: الطبقة والجندر والفضاء العام في القاهرة الكوزموبوليتانية»، كتاب صدر أخيراً عن «المركز القومي للترجمة» في القاهرة، للباحثة الهولندية آنوك دي كونينغ وترجمه أسامة الغزولي. وبحسب المترجم، يعالج الكتاب مسألة «الانتماء الكوزموبوليتاني» كما يتجسد، مثلاً، في المقاهي أو «الكوفي شوب» القاهرية الراقية، وفي جمهورها المنتمي إلى الطبقة المتوسطة العليا... في لغة أبنائها المهجّنة وملابسهم المستوردة الثمينة ولغة أجسادهم وخلفياتهم التعليمية وأوساطهم الأسرية والاجتماعية وارتباطهم بثقافة العولمة واقتصادياتها. ويتجسد هذا الانتماء أيضاً في «الكوفي شوب» ذاتها، لا سيما حين تكون حلقة في سلسلة عالمية، ملتزمة أسلوباً معيناً في واجهتها الخارجية، وفي التصميم الداخلي، في قائمة الأطعمة والمشروبات، وفي الاسم الإفرنجي، والنظافة والمعايير الصحية و «بروفيل» الزبائن الذين يؤثرون استخدام الإنكليزية في يومياتهم، كما يُعَنْون المكان نفسه قوائم مشروباته ومأكولاته بالإنكليزية. في «الكوفي شوب» فرصة اللقاء والسهر لشباب من طبقة اجتماعية ميسورة، إنما لا تتمتع بالثراء بالضرورة، وهو أرخص بكثير من الفنادق أو المطاعم من فئة الخمس نجوم، كما أن الفتيات يلتقين أصدقاءهن من الجنسين، من دون أن يكون ذلك موضع استهجان. هناك إذاً حرية أكبر، حتى مع الاستمرار في ارتداء الملابس المحافظة التي تطبع مظهر فتيات الطبقات المتوسطة والمتوسطة العليا أكثر فأكثر. انهيار النخبة يرى المترجم أن إشارات كونينغ المتكررة إلى النخبة القديمة التي سكنت وسط البلد، تؤكد تأثّرها بما جاء في رواية علاء الأسواني «عمارة يعقوبيان»، وما يدور من ثرثرات في مقاهي وسط البلد. لكن الحقيقة أن النخبة التي احتلت ذلك الجزء من المدينة، منذ أيام الخديوي إسماعيل وحتى ذروة تجميد الإيجارات في زمن التأميم والتمصير في القرن العشرين، انهارت مكوناتها المحلية، وهربت مكوناتها الأجنبية الغالبة والمهيمنة. تلك النخبة القديمة الراحلة، حلَّت محلها نخبة جديدة ولدت من رحم البيروقراطية التي أدارت المؤسسات الصناعية والتجارية المؤمَّمة، واحتلت المراكز العليا والمتوسطة أيام رأسمالية الدولة التي سمّاها جمال عبد الناصر «الاشتراكية العربية» لأنها كانت، بحسب الكتاب، رأسمالية ذات ضمير اجتماعي، وتوجّه وطني وعروبي مناهض للاستعمار والصهيونية. وهؤلاء تحديداً هم الذين يركّز عليهم الكتاب، وعلى أسلوب حياتهم، ونزوحهم إلى «مستوطنات» صحرواية جديدة حول القاهرة، ضمن ما يقال إنه نزوح مصري عام إلى خارج كوردونات المدن القديمة. وتتألف هذه الفئة من مهنيي الطبقة المتوسطة العليا الذين تزيد نسبتهم قليلاً على خمسة في المئة من سكان القاهرة الكبرى، أي أنهم في حدود مليون نسمة. يرصد الكتاب كذلك بروز الطابع الإسلامي في السلوك العام لدى المصريين، في حدوده الوظيفية، أي كعامل للتقريب بين الطبقات. لكن المؤلفة، على ما يبدو، لا ترى أن تسيُّدَ الخطاب الديني مهيمن لدرجة أن يصبح المصدر الوحيد للتماهي والتنافس الاجتماعي، فالطبقة الاجتماعية حقيقة يومية طاغية في القاهرة، سواء من حيث التفاوتات الاجتماعية الشاسعة بين القاهريين أنفسهم، أو بسبب الارتباطات الوثيقة بين الطبقة والثقافة. ومدينة القاهرة تضُم منذ عهد بعيد تشكيلة واسعة من المناطق المتمايزة اقتصادياً واجتماعياً، من الطبقة المتوسطة العليا القديمة في المعادي ومصر الجديدة والزمالك، إلى مناطق الطبقة المتوسطة الدنيا في شُبرا والمنيرة. أما المناطق الأحدث، مثل المهندسين ومدينة نصر، فتضم طبقة وسطى صاعدة، في حين أصبحت المجتمعات المغلقة المقصد المفضل للقاهريين من الطبقة المتوسطة العليا. التنوع وفي أواخر التسعينات، أشارت التقديرات إلى أن نصف سكان القاهرة يعيش في مساكن عشوائية، وهي مناطق الطبقة المتوسطة الدنيا، لا تخطيط مُدُنياً لها، وتمتلئ بالمساكن غير المرخصة والمهن غير الرسمية لسكانها، ناهيك بعدم توافر الخدمات الأساسية فيها بشكل شرعي. لكن هذا التقسيم ليس تقسيماً نهائياً، فكل منطقة تضم سكاناً متنوعين، وحتى في مناطق الطبقة المتوسطة العليا مثل الزمالك، هناك سكان من الطبقة الدنيا ومحال ومقاهٍ شعبية، في حين أن منطقة شعبية خالصة مثل «الحسين» تضم تجاراً ورجال أعمال موسرين. الكتاب يتصور قاهرة أخرى، تناسب الأجندة النيوليبرالية في مصر، من طريق إعادة تخيّل الأمة وتنميتها ومستقبلها، وبالتالي يصبح بديهياً أن تُطرح أسئلة من عينة: من يكون الوريث الشرعي لهذه الرؤى الجديدة للأمة؟ ومن يملك بالتالي حق إدارة مواردها؟