في سكون الليل الهاجع، في دجن السماء الصامتة، حيث لا صوت يعكر هذا الصفاء، ولا حركة تهدد هذا السكون، أغمضتُ عينيّ، علّني أرى ما لم أره في السماء الداكنة، لكنني شاهدت سماءً ثانية... والظلمة في كل مكان... فتحتُ عينيّ... الظلام يعمّ الكون. وأغمضتهما... الظلام كذلك حالك، يلفُّ كياني. لِمَ هذا السواد الداكن؟ لِمَ هذا الوجوم المخيف؟ لِمَ هذا الترقُّب القلق؟ أشعرُ بخوف أجهله، خوف من الظلام، من الصمت، من الفراغ، من هذا الجمود المقيت. لكن ثمة إرادة داخلية، بارقة أمل تدفعني الى الخروج من هذا الجو الكئيب، وتستحث خطاي للابتعاد بسرعة كبرى... فتحتُ عينيّ، وأغمضتهما مرة أخرى على أمل أن أنطلق خارج هذا الظلام العميم، الى مكان جديد، الى فضاء مشعّ... لكنني، لم أرَ سوى الظلام ثانية. إنما ثمة شيء جديد، هو صوت خافت، بعيد، وكأنه يصدر عن الأبدية، فلا أتبيَّن ماهيته، ولا مصدره، ولا ماذا يعني. بضع لحظات، واقتربَ الصوت مني، أو ربما أنا اقتربت منه... بدأ يعلو ويرتفع، حتى بتُّ أسمعه جيداً وواضحاً... هو صوت نبض قلب. قلب من؟ لا أعرف، لكنني متأكدة من أنه صوت قلب... ارتفع أكثر فأكثر، حتى خيّل إليّ أنه يتكلم: «لِمَ هذا الظلام الكثيف تلفّني به؟ لِمَ هذا الصمت المطبق تسربلني به؟ لِمَ هذا الخوف من اللاشيء، والقلق من المجهول تضعهما عثرات في دربي؟ لِمَ تعيش في اضطراب دائم، فتجعلني في اضطراب مماثل؟ ألا يكفيك هذا الظلام الذي من حولك؟ لِمَ لا تكشّح الظلمات من داخلك، فتشرق على من حولك، وتنير أحلك الظلمات؟ في البدء، كنتَ سيد المخلوقات... هذا ما شاءه لك الخالق. واليوم، ها أنت تخلع رداء المُلك، وترميه جانباً مفضلاً الذل والظلم والهوان. في البدء، كنتَ تحيا في نور أبدي، في سلام دائم... وها أنت اليوم، تضع ستاراً فوق الستار، والحجاب تلو الآخر... وإن لم تجد من تصارعه، تصارع نفسك، وتشن حرباً عشواء على ذاتك، على النور الذي يقطن أعماقك. في الماضي، كنتَ الكائن الوحيد الذي يحق له أن يلامس النور وينعم بدفئه... والأوحد الذي يستطيع أن يحكم بالعدل، لأنك كنتَ تجسيد عدل خالقك على الأرض. أما اليوم، فما زلت تخشى النور مثلما تخشى الظلمة. أجدك تختبئ من النور كي لا ترى ظلالك تتبعك. أراك تشكو من العدل، وتتظلم من القانون... أين فقدتَ وعيك؟ وأين أضعتَ محبتك وحكمتك؟ حتى أنا، قلبك الذي كان وما زال ينبض منذ الأزل وحتى اليوم... كنتَ تسمعه دائماً، وتحيا بالمحبة التي يحتويها... أراك اليوم صامّاً أذنيك عنه... حتى نبضات قلبك لم تعد تسمعها... وحين سمعتها في هذه اللحظة، ارتعشتَ، لأنها آتية من البعيد، من الماضي السحيق... لم تتعرف إليها في بادئ الأمر... هل نسيتَ صوت القلب؟ هل تاهت فيك المحبة الى الأبد؟ أين إرادتك؟ أين مقدرتك؟ لِمَ استسلمت للظلام، وضعفت أمام غَمامة عابرة؟ استفقْ، وعُدْ الى الماضي العريق الذي كنت تحياه في النور، بل عُدْ الى المستقبل الذي لن يضم إلا الواعين واليقظين والجريئين لأن الخوف لا مكان له في المستقبل، لا الخوف ولا الصمت ولا الجمود، لا الكسل ولا الفشل... المستقبل سيكون موئل النور. وصمتَ القلب، وفتحتُ عيني، فرأيت النور وقد عمَّ المكان والفضاء، وعمَّ كياني. هل هذا هو المستقبل البهي وقد ابتدأ في الحاضر؟ لبنى نويهض - بريد الكتروني