لا نبالغ إذا اعتبرنا رواية الجزائري الفرنكوفوني مصطفى بن فضيل، «أركيولوجيا سديم العشق»، التي صدرت عام 2007 في الجزائر (منشورات «البرزخ»)، النص الأكثر حداثةً في إنتاجنا الروائي العربي المعاصر. فإن على مستوى شكلها الفريد، لغةً وإخراجاً وحبكةً، أو على مستوى تقنياتها السردية المبتكَرة وطُرُق معالجة مواضيعها الكثيرة الطارئة، يمنحنا بن فضيل فيها أمثولة في الكتابة الروائية تلخّص وتكمل العمل التفكيكي والتدميري الضروري الذي اضطلعت به الطلائع الأوروبية في جميع الميادين الفنية والأدبية خلال القرن الماضي. وهذا ما يفسّر قيام دار al Dante الفرنسية للنشر، التي يتركّز اهتمامها على الانتاج الطليعي في العالم، بإصدار هذا النص حديثاً مؤمّنةً له إنقشاعاً واسعاً يستحقه. وهي فرصةٌ نستغلّها للتعريف به وبأبرز خصوصياته. وتجدر الإشارة أولاً إلى أن الرواية مقسومة إلى جزأين: في القسم الأول، نتعرّف الى قصة شاب جزائري عبقري لكنه دميم الخلقة وفظ باسم ياسين نابلسي يروي لنا خيباته العائلية والغرامية والاجتماعية ويجهد في إشعال الثورة في بلده والعالم بواسطة الأدب، الجنس أو الحب، بمساعدة مجموعة من الشبّان الهامشيين. لكن مع الوقت، يختلط علينا كل شيء قبل أن يتبيّن لنا أن هذا الشاب ومغامراته هم في الواقع ثمرة مخيّلة كاتب باسم مروان ك. يحاول، بناءً على طلب من مُلهِمته، كتابة رواية في يوم واحد تفكّك «النظام السردي» السائد في بلده. ومن حين إلى آخر، تقطع حبكة الرواية ملاحظات على شكل يوميات نظن في البداية أن هدف مروان ك. منها هو الإفصاح للقارئ عن طريقة تشكيله روايته. لكن المسألة تتعلّق أكثر بمشاعر يفضي بها بلا ترتيب وتتركّز حول قلقه وعذاباته وتناقضاته، وتمنحنا فكرةً دقيقة عن حالته النفسية وتطوّراتها. أما القسم الثاني من الرواية فيأتي على شكل تحقيق يقوده ضابط الشرطة القضائية كامل العفريت لكشف ملابسات وفاة هذا الكاتب، مركّزاً جهده على نص الرواية نفسه وبُعد السيرة الذاتية فيه... ويثيرنا نص الرواية بذلك الكمّ المتنوّع من الشذرات الذي يتضمّنه ويقع خارج عملية السرد، كالاستشهادات الغزيرة والقصائد المرتجَلة أو المستعارة من أحد الشعراء أو من أحد دواوين بن فضيل، والحِكَم والأقوال المأثورة التي تحضر على نحو مباغِت، إضافةً إلى شطحات كلامية مبهمة أو مضحكة وفي غير محلّها، وتأمّلات معقّدة وملتوية وتخطيطات غريبة. وفي بعض الأماكن، يقود الفيض السردي فجأةً إلى صفحات بيضاء هدفها من دون شك التعبير عن شكّ أو حيرة أو قطيعة في تسلسل فكر الكاتب. وتؤسّس هذه المميّزاتٌ لأرضية روائية جديدة تنال من التقليد السردي السائد وتحرّر المكبوت فينا وتسيّر العبثي وتعبّئ مشاعر الغضب على أفضل وجه. رسالة الكترونية وفي الرواية نقرأ أيضاً نص رسالة الكترونية أرسلتها مُلهمة مروان ك. من بيروت له وعُثر عليها في جيبه بعد وفاته، كما نقرأ بياناً سياسياً طليعياً بعنوان «الشكوبية» خطّه هذا الأخير ويدعو فيه رفاقه الفوضويين الفنانين إلى تشكيل فرقة «كومندو ثقافي» لبلوغ هدفهم. ولا شك في أن تعدد الأساليب والخطابات والأنواع الأدبية والأصوات داخل هذا النص يستجيب لضرورة عاجلة في فبركة معنى حين «تنخرنا العدمية من كل صوب». روايةٌ متاهية بأبعاد وأدراج مختلفة إذاً، تختلط فيها طبقات لغوية مختلفة ومراجع اجتماعية وثقافية وأسطورية، كما أنها، في الوقت ذاته، محاولةٌ لتفجير شكل الرواية التقليدي وتقدم نموذجاً سردياً فريداً من نوعه لا يوظّف بن فضيل فيه فقط معظم انجازات الطلائع الأوروبية بشكل مثير وذكي، بل يتقدّم على أرضية هذه الإنجازات إلى نقطة جديدة تسمح له بخط بورتريه قارص لوطنه الجزائر اليوم ومقاربة جميع مشاكله بحسّ دعابي تحريضي وانتهاكي: السياسة، العائلة، الفساد، الأزمة الاجتماعية والاقتصادية، التطرّف الديني، الجنس، وضع المرأة، مع التركيز على حالة الجيل الشاب الضائع الذي يحاول يائساً إعادة ابتكار لغة للتمرّد. وفعلاً، يسائل بن فضيل في هذه الرواية اللاوعي السياسي لجيل التسعينات من خلال باقة من الشخصيات التي لم تعد تجد نفسها في الخطاب الثوري اليساري ولا في مشروع «الجبهة الإسلامية للإنقاذ» الإنقلابي. ولهذا نجدها تعلن انتماءها لفوضوية فنية وتجتمع تحت تسميات عديدة وتحلم مثل الجميع بالثورة والحب. باختصار، ثمة تمزّق هويّاتي في هذا النص، وتداخُل ومقابلة بين عمليات سردية مختلفة، وخطورة في المُضحك، وفيضُ غرابة مباغت، وعنف وعزلة في الاستيهامات الذهنية، ضمن لغة تجرف في طياتها الضجيج الشفهي للشارع وتصدّ بالهذيان «حدود ما يتعذر تسميته». وهذا ما يقودنا إلى استحالة الإمساك بمعنى النص الشامل التي سببها سرّ مادّته المركَّزة بطريقة تجعل منه عملاً مفتوحاً في شكل أساسي، وفي الوقت ذاته، عملاً يقوم على فن القطيعة والإيحاء والحيرة. بعبارة أخرى، يلجأ بن فضيل إلى بلاغة تميل في نهاية المطاف إلى الصمت. وما التراكم الدلالي والصوتي الذي تخضع له عملية السرد إلا لإخفاء المعنى وبلبلة الحواس عبر إتلاف الأُسُس المرجعية. وبالتالي، بمقدار ما يُمنح النص إلينا كتلفُّظ مستمر وينشط في اتجاه لا محدودية القول، يتّسع جانبه الذي يتعذّر قوله أو وصفه. بجملة بسيطة، تستحضر لا محدودية القول في هذه الرواية استحالته.