مَن يشاهد تيليفيلم «بيروت أوتيل» الذي منع الأمن العام اللبناني عرضه في الصالات يدرك أنّ الحجج التي تذرّع بها الأمن العام لمنع الفيلم، واهية وغير مقنعة. بل قد تبدو هذه الحجج مركّبة أو مفتعلة. فالفيلم الذي أخرجته دانيال عربيد وسارعت قناة «آرتي» الفرنسية إلى عرضه بعد منعه، لا يهدف إلى «مطاولة جهاز الاستخبارات التابع لدولة غربية صديقة» كما عبّر بيان الأمن العام الذي نشر في الصحف. ولم يتهم الفيلم أيضاً الأمن العام بتصفية «عباس» (فادي أبي سمرا) أحد «أبطال» الفيلم، بل ترك مقتله غامضاً غموض الجهة التي أمدّته ب «المعلومات» والجهة التي أقدمت على قتله، وهي ليست الأمن العام وفق ما ظهر في الفيلم. شخصية الرجل الفرنسي الذي يُدعى «ماتيو» لا يمكن التعويل عليها في كونها شخصية استخباراتية. مثل هذه الشخصيات يجب أن تكون أشدّ تعقيداً والتباساً. وربّما يشكل هذا الشخص، كما رسمته المخرجة، إحدى نقاط الضعف في الفيلم وهي غير قليلة أصلاً. هذا الرجل الفرنسي الذي يأتي إلى لبنان لينتقل من ثمّ إلى سورية والذي يقع في حبّ «زهى» (دارين حمزة) روحاً وجسداً، لا يمكنه وفق ملامحه الدرامية أن يتولّى مهمة الاستخبار والتجسس. فهو بدا ساذجاً بعض السذاجة في نظرته إلى المسألة التي تشكّل محور الفيلم، وهي مسألة «الفلتان» الاستخباراتي الذي أعقب استشهاد الرئيس الحريري. بدا هذا الشخص كأنّه مقحم إقحاماً في سياق الفيلم وفي الواقع الحذر الذي عاشته بيروت حينذاك، عندما كثرت الأخبار المغرضة والتهم و «المعلومات» الملفّقة حول الجريمة. وما زاد في ضعف شخصية الفرنسي أنّ المخرجة جعلت منه موظفاً في شركة اتصالات فرنسية ومهمته المفاوضة باسمها لإنشاء مراكز اتصال هاتفي في سورية. وهذا خطأ فادح. الفيزا الفرنسية وإن لم تظهر أي علامة فاضحة تدلّ على تورّط هذا الفرنسيّ استخباراتياً لا سيّما بعد أن يواجه غضب زوج زهى التي هجرته وتحاول الطلاق منه، فإنّ شخصية عباس لم تدلّ بدورها إلى أي تورّط واضح وفادح لا سيما في ما يخصّ الأمن العام. فهذا المحامي كان يلح على صديقه الفرنسي «ماتيو» أن يتدبر له أمر الفيزا في السفارة الفرنسية ليسافر هرباً من الجهة التي تطارده. والتهمة الموجهة إليه هي حصوله على معلومات تتعلق بجريمة قتل الحريري. هذا الشخص لم يبدُ مهيّأ أصلاً لمثل هذه المهمات، على الرغم من إبداع فادي أبي سمرا في أداء شخصيته ومنحها صورة حيّة بعيداً عن «الفكرة» التي تمثلها. وقد نجح في تلوين الشخصية وإنقاذها من أي فراغ يتهددها. فهو شاب يهوى الحياة والسهر والشرب، على رغم الخوف الذي كان يعتريه، الخوف من أن تصفّيه جهة سرّية. لا يستحق هذا الفيلم الحملة التي قام بها الأمن العام ضدّه، ومنعه من العرض جعل منه قضية فنية وسياسية. الفيلم خفيف وعادي وربّما «سطحي» في علاقته بقضية مقتل الحريري وفي مقاربته تلك الفترة السوداء التي تحتاج إلى الكثير من التعمّق والتحليل. لكنّ ما أنقذه من السقوط في المجانية هو الجوّ الذي استطاع أن ينسجه من خلال العلاقات المتعدّدة والمتقاطعة والمتوترة، بين الشخصيات وبينها وبين المكان والزمن في تلك الفترة المضطربة سياسياً وأمنياً. فالشخصيات تعيش حالاً من التوتر والانفعال (والضياع)، وهذه الحال ناجمة عن الحال العامة التي كانت تهيمن على البلاد. علاقات مضطربة شخصيات حائرة، بعضها يساوره الخوف، بعضها القلق. حتى العلاقة العاطفية بين زهى والرجل الفرنسي «ماتيو» بدت متوترة، باردة حيناً، حارّة حيناً. علاقة مضطربة، يتوزّعها الحب والجنس... وهذه العلاقة لم تسلم من «التركيب»، حتى وإن كان ممكناً أن تحصل واقعياً. لكنّ زهى لا تمثل المرأة اللبنانية المبهورة بالرجل الغربي (الفرنسي هنا)، ولا تفضل «النموذج» الذكوري الغربي على النموذج اللبناني. لكنّها في لحظات التوتر هذه وجدت في هذا الرجل الغريب لحظات من الحبّ الذي تحنّ إليه بعد انكسار علاقتها بزوجها. وكم نجحت دارين حمزة، هذه الممثلة القديرة والجريئة في أداء هذه الشخصية وفي تجسيدها وتجسيد الحالات المتناقضة التي تحياها. ممثلة قديرة حقاً، جارفة في أدائها، في صمتها كما في حركتها. حضور باهر وتمرّس في لعب الشخصية واللعب عليها وعلى طباعها أو (كراكتيرها) والذهاب بها إلى أبعد ما سعى الفيلم أو السيناريو إليه. هذه الممثلة التي لم تهب «التابو» بل التي كسرت القيود التي تكبّل الممثلات اللبنانيات والعربيات طرقت في هذا الفيلم باب العالمية. إنها ممثلة أرستقراطية، قادرة حقاً على إنقاذ علاقة الحب من الارتياب وعلى الارتقاء بها إلى لحظة إبداعية وجمالية راقية على الرغم من اعتماد ممثلة بديلة في المشاهد الصارخة والقليلة أصلاً. وكانت دارين حمزة التي لا يضيرها أن تتخطى حاجز الممنوعات في التمثيل، جاءت إلى هذا الفيلم وهذه الشخصية المتحرّرة والجريئة من مسلسل «الغالبون» الذي أدّت فيه شخصية «بتول» الفتاة المحجّبة والمحافظة التي بهرت المشاهدين وجسّدت ما يشبه «الأيقونة» الأنثوية، العذراء والصافية. وقيل إنّ خروجها عن هذه الشخصية وعن حضورها الطاغي في «الغالبون» وإطلالتها في شخصية أخرى، نقيضة، هو الذي كان وراء الحملة التي أقيمت ضدّ الفيلم. فلم يكن من الممكن أن يُسمح لها أن تطلّ بهذه الجرأة الجمالية المكشوفة ولو عبر ممثلة بديلة، بعدما رسخت صورتها العذراوية في ذاكرة الجمهور اللبناني. فيلم عادي جداً وسطحي في أحيان ولولا الجوّ الذي خيّم عليه، والفضل فيه لدارين حمزة وفادي أبي سمرا، لكان الفيلم وقع في المجانية والركاكة. ويكفي أن عنوانه «بيروت أوتيل» قد اسُتنفد واستُهلك كثيراً في أعمال سينمائية ومسرحية. * يعرض الفيلم اليوم الساعة 12.30 بتوقيت غرينيتش على قناة «آر تي»