هناك نكتة شهيرة عن رجل مجنون يتخيّل نفسه حبة قمح، ويخشى الدجاج بصفته عدوه اللدود. على رغم معالجته في مصح عقلي فإنه، عند رؤيته أول دجاجة بعد خروجه من المصح، خاف وهرب. سأله طبيبه النفسي عما إذا كان لا يزال يظنّ نفسه حبة قمح، فأجابه المريض: كلا، أعلم أنني إنسان ولست حبة قمح، ولكن هل الدجاجة تعلم هذا؟ تُروى هذه النكتة كمثل عن تعقيدات الهوية وتكوينها ودور الآخر في هذه العملية. ولكن يمكن قراءتها أيضاً كتعبير عن تداخل البارانويا، أي الشعور الوهمي المضخّم بالاضطهاد، والخوف الفعلي في منظومات القمع. فقد شكّلت حالة البارانويا الجماعية إحدى دعائم الأنظمة القمعية من خلال تعميمها الإحساس بأن هناك من يراقب ويلاحق ويتتبع. فالبارانويا الجماعية، أو، لمزيد من الدقة، حالة الالتباس بين البارانويا كحالة نفسية والخوف الفعلي القائم على المراقبة الحقيقية، وسيلة للإمساك بالمجتمع وتفكيكه وتحويله إلى مصنع لمصادر خوف متجددة. يقع تشابك البارانويا والخوف والقمع في صلب فيلم «بيروت هوتيل»، الممنوع في لبنان، للمخرجة اللبنانية دانيال عربيد. يروي الفيلم علاقة حب بين فتاة لبنانية وزائر فرنسي، تقع في غرفة فندق في بيروت، وتتخلّلها وتتداخل فيها أحداث لبنان الراهنة، من التحقيق باغتيال الرئيس الحريري إلى عمليات كشف الجواسيس الإسرائيليين وصولاً إلى حالة المراقبة والترقّب الشائعة في المجتمع. ينتج هذا التقاطع حالة من البارانويا المعمّمة ترمي بثقلها على تطور أحداث الفيلم: بارانويا دائمة من الملاحقة وبارانويا متجددة من الأجانب وبارانويا إستخباراتية من الفنادق وبارانويا عامة من الآخر. وفي هذا الجو العام من الحذر، الفعلي أو الوهمي، تتداخل الحياة الشخصية بالمؤامرات الإقليمية والاصطفافات السياسية، لتنتج مجتمعاً ممزقاً، أقرب إلى مجموعة من الأفراد الخائفين من بعضهم بعضاً، لا توحدهم إلاّ قبضة الأمن وطرد الغريب المخيف، أي الزائر الفرنسي في فيلم عربيد. نجحت المخرجة اللبنانية، في إحدى أوائل المحاولات لسرد رواية لبنان الحالي، أي لبنان ما بعد ال2005، في التقاط شيء من الجو المهيمن في البلد، جو الحذر والخوف، حيث الجميع مراقَب ومراقِب في آن واحد. وينمّ نجاح هذه المحاولة عن اعتناق الفيلم لالتباس الظاهرة المَرَضيّة تلك من خلال الوقوف على الخط الفاصل بين وهم البارانويا وحقيقة القمع. فالفارق بين البارانويا والخوف المبرّر هو حقيقة مصدر الخوف أو مصدر وهميته. يتأرجح «بيروت هوتيل» بين هذين الحدّين. فهو فيلم عن ذاك الوضع النفسيّ العام في لبنان. ولكنه أيضاً تحذير من الانزلاق البطيء نحو نظام قمعي تسوده حالة عامة من المراقبة الفعلية. ذاك أن البارانويا الأوليّة سرعان ما تنزلق إلى حالة قمع فعلية، وتتحول الحالة النفسية إلى وضع سياسي. ومع هذا الأفق القمعي، تأخذ الأزمة النفسية مع «بيروت هوتيل» بعداً مُطمْئناً. ففي وجه إشارات عدة تدلّ إلى تدهور قمعي يشهده لبنان، تظهر البارانويا كنوع من الطمأنينة، تؤكد لنا أن مخاوفنا مجرد اضطراب نفسي، لا وجود فعلياً لها. ففي وجه موجات الاغتيالات التي عصفت بلبنان مروراً بعمليات الخطف، من المهندس جوزيف صادر إلى المعارضين السوريين، وصولاً إلى شبح شبكة «حزب الله» وامتداده الثقافي في المكارثية الممانعة والمقاطِعة، واستكمالاً بظاهرة تفشّي السلاح، يتمنى المرء أن يكون مصاباً بالبارانويا، وأن تكون تلك الأحداث مجرد صدف، لا رابط بينها ولا دلالة لها. لكن الأفلام نادراً ما تنتهي في صالات السينما في لبنان، وغالباً ما تصبح لها حياة مستقلة في زواريب الرقابة والسياسة. فقد جاءت الرقابة اللبنانية لتنهي التباس فيلم «بيروت هوتيل» من خلال منعه أو طلب اقتطاع أجزاء منه. هكذا زال الالتباس السينمائي أمام القمع الفعلي، واستُبدل تأرجح الفيلم ببساطة الواقع. ولنا أن نستنتج من هذا المنع معايير الواقع المسموح به في لبنان، وذلك بغض النظر عن أسباب المنع الرسمية التي لا تستحق النقاش لتفاهتها (وتبرّع مدير تحرير جريدة «النهار» بالدفاع وشكر الأمن العام على عمله، النهار، 1-12-11، علماً أن الدليل الأكبر على تفشي نوع من الفاشية المحلية والانزلاق الى نظام بوليسي هو التبرع العفوي للصحافة بدعم منع أعمال فنية). فقد مُنع «بيروت هوتيل» لأنه خرق قوانين اللعبة عندما اقتبس من الواقع بعض مواده، معتبراً أن هذا الواقع متاح للاستعمال في أعمال روائية أو سينمائية. ففي بلد اعتاد على النسيان والتجاهل، يكون الاقتباس من الواقع عملية دقيقة، هي غالباً ممنوعة إلّا إذا أخذت شكل ترويض الواقع بتحويله إلى درس أخلاقي، قائم على نبذ الطائفية أو لوم الغريب، وهذا هو البديل اليساري أو اليميني للعظة الأخلاقية. لقد انتج هذا التعاطي انفصاماً بين الواقع والتعبير عنه، وهو واقعٌ خارج عن أي محاسبة أخلاقية لأنه غير موجود وتعبيرٌ عنه مُطهّر ومُشبع بالأخلاقيات، قائم بنفسه ومقطوع عن أي واقع. في هذا السياق، تمكن مقارنة منع فيلم عربيد بالإعجاب الرسمي والشعبي الذي لقيه فيلم لبناني آخر «وهلأ لوين؟»، للمخرجة نادين لبكي. فعلى عكس «بيروت هوتيل»، يحترم فيلم لبكي، وهو كناية عن تجديد مقولة الجرة الرحبانية عبر تلوينها بشعارات الستينات عن التحرر، كل قوانين اللعبة، على رغم «جرأته». فوفق رواية «وهلأ لوين؟»، كان من الممكن تفادي الحرب الأهلية لو كان اللبنانيون أكثر انفتاحاً وتحرراً. بهذا الاستنتاج البسيط، تروّض لبكي الواقع اللبناني لتجعله درساً في الأخلاق ونبذاً للواقع المر، مضيفةً، إلى جانب الغريب والطائفية والمؤامرة في قاموس الرواية الرسمية، الكبت بصفته سبباً للحرب. بين تحذيرات لبكي الخاطئة وتنبيه - تحدي عربيد الواقعي، اختارت الأيديولوجية اللبنانية الخيار الأول ونبذت الثاني، مصرةً على منع الواقع من التعبير، على أمل ألا ينفجر يوماً، كما انفجر مرات عدة من قبل. لقد اختارت عربيد البارانويا كمدخل للغوص في الواقع اللبناني. فكانت النتيجة صورة رمادية عن مجتمع خائف ومنقسم، يحاول أبناؤه العيش يوماً بيوم، والهروب إذا أمكن. الزائر الفرنسي يترك الجنة في فيلم عربيد، ولكنْ على عكس «رواية الغريب» في المخيلة اللبنانية، لا يكفي هذا للعودة إلى الجنة. فلبنان ليس جنة، والغريب ليس جاسوساً، ولا أحد يريد جرتنا. وما يبقى بعد زوال الوهم، مجموعة من المراقبين المصابين بشعور الاضطهاد، يقضون وقتهم محاولين اقناع بعضهم بعضاً بأنهم ليسوا حبات قمح. * كاتب لبناني