لم يكن الانتقال من العالم التقليدي إلى العالم الحديث، مجردَ عبور مرحلة تاريخية إلى أخرى أقرب إلينا في الزمن، ولا مجرد عبور من ضفة معرفية زاخرة بمناهج وتيارات ومدارس ونظريات في العلم والفكر والأدب إلى أخرى مختلفة، أو ربما نقيض صارت هي الأكثر انتشاراً وسيطرة على امتداد ساحة العقل البشري اليوم، وإنما هو كل ذلك وأكثر منه وأعمق... إنه قطيعة مع الماضي البشري في أعمق خصائصه وجواهره ومنطلقاته... انفكاك من أسر الرؤية التقليدية للوجود، وهي رؤية كمونية إستاتيكية وإن كانت شفافة، ترى الذات الإنسانية وتشعر بها كنقطة في سياق العالم الطبيعي، كجزء من أجزائه، تتماهى معه ولا تنفصل عنه، بل تنعكس عليه في ظواهره وإيقاعاته وحركات كواكبه ونجومه حسبما تتبلور الروح السحرية/ الأسطورية، أو تشعر بالتمايز عنه والتعالي عليه، ولكن من دون قدرة على التحكم به أو إعادة صوغه، بل فقط التأمل فيه والاعتبار به، في إطار نموذج الاستخلاف الذي تبلوره الرؤية الدينية للعالم. وهو في المقابل، ولوجٌ إلى فضاء رؤية حديثة للوجود، ترى الذات الإنسانية في مركز هذا العالم الطبيعي، مهيمنة عليه، قادرة على صوغ أشكاله اجتماعياً وسياسياً، بعد أن زادت معارفها ومن ثم قدراتها على التحكم النسبي بمادته وتركيبه، عبر اكتشاف متزايد لقوانينه وقدرة متنامية على فهم منطقه. وتم صوغ هذه الرؤية الوجودية الحديثة من خلال تطوير أنساق فرعية عدة، من بينها ثلاثة أساسية: منهج علمي تجريبي، منطق فلسفي جدلي، وإدراك سياسي تحرري. نحو منهج علمي تجريبي تأسس العالم القديم الممتد بطول التاريخ الكلاسيكي على قاعدة نموذج معرفي «صوري/ منطقي» قام بدوره على المنهج الاستنباطي، حيث تكون المعرفة صادقة وموضوعية، بحسن استخلاص النتائج من المقدمات، عبر عمليات استدلال عقلية ذاتية صرفة تقوم على فروض منطقية كامنة في الوعي الذاتي للفرد القائم بعملية الاستدلال، وتتأثر من ثَم بميوله ونزعاته، وليس من مطابقة هذه المعرفة لظواهر العالم الخارجي كما في العلم التجريبي، أو للواقع الاجتماعي كما في العلوم الإنسانية. فمن سمات المنهج الاستنباطي أمران مهمان: أولهما هو ترسيخ الدوغمائية الفكرية، لأن الوعي الذاتي هنا هو دائماً مكمن الفرض الأول الذي تقوم عليه عملية الاستدلال، بحسب قواعد التفكير الصوري، فالمقدمات الصحيحة تؤدي إلى نتائج صحيحة بالضرورة، وكذلك المقدمات الخاطئة، فهذه من جنس تلك وأثر من أثارها المنطقية، أي أن العمارة الفكرية كلها تصبح رهناً بالوعي الفردي للإنسان وليس بالحقيقة المجتمعية أو الطبيعة، وهنا تنمو نزعات فكرية تتلبس بروح اليقين المفرط (الدوغماطيقي)، وتبعد عن روح الشك المنهجي. والثاني هو ضعف المحصول النهائي لعملية المعرفة برمتها، فكل قضايا البحث من النوع التحليلي، الذي لا يضيف إلى الوعي بالعالم شيئاً جديداً، بل يدور في فلك المسلّمات القائمة، حبيساً في الدائرة المغلقة لعملية الاستدلال، مكرساً من ثم، لصورة العالم القديم كما هي، مالوفة أو موروثة، غير قادر على تكسيرها أو الإفلات من قبضتها. وعلى العكس من ذلك قدم العلم الحديث للعقل الغربي الأداة الأبرز لنقد تاريخه الوسيط وتكسير تركيبته الإقطاعية، وذلك من خلال منهجه التجريبي، بخاصة في تطوراته اللاحقة على النزعة الشكية لدى ديكارت والتجريبية لدى بيكون، والتي نهضت على العناق بين الرياضيات والفيزياء، وأنتجت في النهاية -عبر اشتقاقها لفروض صارمة ومعادلات منضبطة وقوانين دقيقة- نسقاً معرفياً كاملاً يبحث في الوسائل والأشياء، والمقادير والكميات، والكتل والموازين، ويراكم المناهج والنظريات المطلوبة لملء الفراغ الممتد بين الإنسان والطبيعة، واللازمة لاقتحامها والكشف عن جوهرها فهماً لها، وتوظيفاً لقوانينها. وأدت الروح الشكية المصاحبة للمنهج التجريبي إلى إعادة صوغ صورة العالم في الوعي الغربي على المستويين الفردي والجمعي، وهي صورة أصبحت ليس فقط قابلة للتجربة والاكتشاف بشكل وثيق الصلة بجوهرها ذاته، كما أدت إلى ذلك فيزياء نيوتن الحديثة ولكن الإستكاتيكية، وإنما أيضاً لإعادة الاكتشاف على نحو مستمر يوازي تحولاتها الدافقة عبر الماهيات المختلفة في الدرجة، بل وفي النوع، حسبما أدت فيزياء آينشتاين المعاصرة «النسبية»، القائمة على التحول في ماهيات الوجود، خصوصاً بين المادة والطاقة، والمكان والزمان، وذلك عبر ديناميكية معقدة ألبست العالم صورتها، وصاغته على نحو متغير يدعو دائماً إلى الشك ويبعد عن اليقين الذي كانت ترسف فيه الثقافة التقليدية. وهو الأمر الذي نقل وعي الإنسان الغربي (الحديث) إلى فضاء جديد عقلاني/ موضوعي مكّنه من القفز إلى آفاق التقدم العلمي الرحيبة عبر العديد من الثورات، التي بدأت بالثورة الصناعية ولن تتوقف عند الثورة العلمية والتكنولوجية الراهنة. ...ومنطق فلسفي جدلي ارتبطت الرؤية التقليدية للوجود بنزعة توفيقية سكونية، نهضت بدورها على قاعدة المنطق الأرسطي، القائم على أساس مبدأ عدم التناقض ووحدة الحقيقة في مستواها الأعلى (المطلقة)، حيث كان الإيمان الفلسفي بقدرة واحدة متعالية ومهيمنة في الفكر الفلسفي اليوناني «المبدأ الأول» أو «العلة الأولى» أو «واجب الوجود»، وهو ما كان يتم تأويله بسهولة إلى «الله»، أو «الأول» في الفكر العربي الإسلامي القائم على عقيدة التوحيد المطلق. وأيضاً على النموذج المعرفي الأفلاطوني الذي قام على مبدأ سمو الحقيقة وثباتها «كمثال» ملهم دائماً ل «واقع» قد تتغير صوره وأشكاله نسبياً وإن تشكل في كل الأحوال على صورة المثال الذي يعكس هذه الحقيقة باعتباره أصلاً لها. وكذلك على أساس التصور الأفلوطيني الذي جعل من المثال الأفلاطوني موجداً أول وعقلاً هيولانياً ملهماً لسائر الموجودات، فياضاً بالمعرفة على سائر العقول، حيث تباينت مستويات الوجود ودرجات المعرفة، وإن ظل أصلها المشترك هو إرادة علوية مهيمنة موجدة وعارفة لم تكن سوى الله في تأويلات الفكر العربي الإسلامي الوسيط . في المقابل، ارتبطت الرؤية الحديثة للوجود بنزعة شكية اقترنت إما برفض الميتافيزيقيا وإما بحصارها وتضييق نطاقها، بدأت مع العصر الهيوماني، ونمت مع فلسفة التنوير. ثم تغذت تلك النزعة الشكية بالمنطق الجدلي / الديالكتيكي الهيغلي، القائم أساساً - في ضدية المنطق الأرسطي - على مبدأ التناقض وقاعدة الصراع بين أطراف الثنائيات بحثاً عن المركب الجدلي الجديد المندمج، الذي سرعان ما يتحول في حركة الواقع إلى طرف في ثنائية جديدة يصارع طرفها الآخر، وهكذا. ولا شك في أن هذه الجدلية المتحركة وما أدت إليه من تفكيك للذهن التقليدي، وإرباك للوعي الموروث، قد فتحت الباب إلى وعي إنساني جديد يتسم بالديناميكية والفعالية والإيمان بالتقدم. نحو إدراك سياسي تحرري لم يكن ممكناً للعالم التقليدي أن يعرف الذات الفردية، إذ لم يكن يكترث كثيراً بالروح الجوانية للإنسان. ففي زمن البداوة، حيث تغذى الناس على جمع الثمار وتنافسوا على الصيد والمرعى، كانت قوة الجسد هي العنصر الحاسم في صون الحياة وتقرير المصائر. لقد تمتع البدائي بحرية مطلقة إزاء الآخرين، الأمر الذي مكّنه من الانتقال خلف كل طعام احتاجه، واللهاث وراء كل فريسة أرادها، والسعي خلف كل امرأة رغبها، بلا محاذير تذكر. ولكنه في المقابل، لم يكن يضمن لنفسه الحياة إذا ما وهن الجسد، فعندها يتحول من صائد كبير إلى صيد صغير، وتكون النهاية. ومع بزوغ عصر الزراعة، ظهرت الحضارات الكبرى، حيث المجتمعات المستقرة نسبياً، والمنظمة سياسياً في إمبراطوريات أو دول أكبر، كان الناس يزرعون ويحصدون ويتكافلون في ما بينهم، تحميهم قوة السيف من الأغراب عنهم. ومن ثم صار ممكناً ضعيفَ الجسد أن يحيا بين الأقوياء، والمريضَ أن يجد الرعاية بين الأهل والأقربين، وهنا صارت حياة الإنسان - ككائن مجتمعي قبائلي ديني - موضعَ اعتبار، ولكن جوانيته ك «فرد» يمتلك «شخصية» لم تَحُزْ بعدُ على هذا التقدير والاعتبار. وعلى العكس، نهض العالم الحديث على قاعدة الذات الفردية، حيث تم تقسيم العمل بين الناس، وحدث التمايز بينهم بحسب قوة العقل والخيال والإبداع، وصار مجتمع الأفراد منظماً على قاعدة القانون. وهنا صار متصوراً أن يتصدر أفراد ضعاف البنية مجتمعاتهم بقوة الخيال والموهبة والإبداع. لقد ازدهرت الروح الفردية، وصار الإنسان قيمة كبرى في ذاته، ولذاته. ومفهوم الفردية هنا لا يجب أن يستدعي لفظ «الأنانية»، والذي لا يعني أكثر من محبة الإنسان لنفسه، وتمحوره حولها، وانشغاله الدائم بها، بل يستدعي بالأساس مفهوم الشخصية الإنسانية الناضجة، القادرة على التحكم بعالمها والسيطرة على مصيرها، من خلال العقل، الذي نُظر إليه دوماً، وبازدياد، على أنه معيار الحقيقة، ودرة تاج التاريخ الكوني. وهنا أخذت تتهاوى كل الأفكار البالية والمتراكمة حول مفهوم الحق الإلهي المقدس في حكم الشعوب، والمكرسة للإقطاع، أمام مفهوم العقد الاجتماعي، المؤَسَّس على الذات الفردية كمَعْلَم بارز للديموقراطية الليبرالية، التي هي بمثابة القلب من الحداثة السياسية.