تتصدى الكاتبة السورية الشابة ديمة ونوس في روايتها الأولى «كرسي» لموضوعة مألوفة وغير جديدة على الأدبين العربي والعالمي هي موضوعة العلاقة بين المواطن والسلطة والتي تقوم، وبخاصة في دول العالم الثالث وأنظمة الحزب الواحد، على المحاباة والتزلف والوصولية من جهة وعلى الخوف والقمع والترهيب من جهة ثانية. تتمحور رواية «كرسي» حول شخصية رئيسية تشكل العمود الفقري للأحداث وترتسم من خلالها ملامح العلاقة بين الحاكم والمحكوم وبين الموظف ورؤسائه وهي شخصية درغام القادم من ريف طرطوس باتجاه العاصمة دمشق حيث يقدر له بعد جهد مضن أن يحتل منصباً مرموقاً في مؤسسة تطوير الإعلام، وفق تسمية المؤلفة. وكما تتحلق الرواية في شكل أساسي حول شخصية مفصلية هي شخصية درغام فإنها تتحلق بموازاة ذلك حول حدث مفصلي هو الزيارة التي سيقوم بها الوزير المختص للمؤسسة الإعلامية التي يحتل فيها بطل الرواية موقعاً بالغ الأهمية الأمر الذي يجعله يمنّي نفسه بالجلوس الى جانب صاحب المعالي واحتلال الكرسي المجاور تماماً لكرسي الوزير، وهو ما سيمكنه بالطبع من تبادل حديث المودة مع معاليه ومن رفع منزلته الشخصية في عين مرؤوسيه وزملائه المنافسين. لا يتجاوز الزمن الروائي تبعاًَ لذلك حدود الساعات الأربع والعشرين السابقة على زيارة الوزير للمؤسسة، لكن هذا الزمن ما يلبث أن يتشعب خلال السرد الى أزمنة متغايرة يتم من خلالها تسليط الضوء على حياة البطل المولود في النصف الثاني من خمسينات القرن المنصرم والذي تترافق حدث الزيارة الاستثنائية مع بلوغه الخمسين من عمره. هكذا تعود الكاتبة بنا بعيداً الى الوراء لتروي على طريقة السرد الاستعادي أو الفلاش باك نتفاً متقطعة من سيرة درغام الذي يفقد أمه بعيد ولادته بقليل ثم ما يلبث أن يفقد أباه في الخامسة من عمره ليتربى في كنف عمه أبي عيسى وزوجته شروق التي يبدأ من خلال رؤيتها عارية هواماته الجنسية المبكرة وليتحول ابن عمه عيسى الى صلة الوصل شبه الوحيدة التي تربطه بمسقط رأسه وعالمه الريفي المتداعي. ثمة لبس محير ومربك في شخصية درغام يجعله موزعاً على المستوى الأخلاقي بين عصامية بارزة، تجلت من خلال دراسته في جامعة دمشق ومن ثم كفاحه الدؤوب لشق طريقه الى المستقبل عبر العمل في جريدة «الثورة» والسفر الى لبنان من أجل تطوير قدراته الإعلامية أو من خلال تسلمه مسؤولية القسم الثقافي في جريدة «الفرسان الثلاثة» وصولاًَ الى عمله الأخير مديراً لمؤسسة تطوير الإعلام، وبين جنوح موازٍ الى ارتقاء السلم الوظيفي لا عبر محاباة السلطة المتمثلة باحتلال الكرسي الملاصق لكرسي الوزير فحسب بل عبر انحراف أكثر خطورة تمثل باستساغته لدور المخبر متجسساً على زملائه وواشياً بهم عبر تقارير دورية كان يرفعها الى حمزة، رجل المخابرات النافذ والقوي، وهو ما تسبب بالأذى الكبير لزملاء له أبرياء كان ذنبهم الوحيد أنهم عبروا أمامه في أحد الاجتماعات عن تبرمهم من البنية البيروقراطية للمؤسسة...تبدو رواية ديمة ونوس منذ صفحاتها الأولى وحتى خاتمتها شديدة الترابط ومحكمة السرد الذي يتتابع خلال ما يقارب المئة والسبعين صفحة من دون توقف ولا إرباك ولا نتوءات بارزة تعيق تدفق اللغة أو مسار الأحداث. ورغم تعدد الأزمنة وتداخلها في الرواية فإن القارئ لا يشعر بمرور الزمن أو انقضائه كما لو أن محطات حياة البطل كلها تندغم دفعة واحدة في لحظة الانحراف الشخصي والاجتماعي التي جعلت الاقتراب من كرسي السلطة الممثلة بالوزير هو المآل النهائي لطموح درغام الأخير، لا بصفته الفردية فحسب بل بوصفه رمزاً لفساد القيم وانحلالها في المجتمعات القائمة على التسلط والاستحواذ والتزلف واحتقار الإنسان. وفي عالم كهذا تبدو عبارة ميكيافيللي «الغاية تبرر الوسيلة» هي النموذج المحتذى لكل من يريد الوصول الى ضالته وبخاصة لدى بطل الرواية الذي راح يسحق بتقاريره المكتوبة كل منافسيه الواقعيين أو المحتملين باستثناء زميله خضر الذي بدت سلطته الشخصية الملغزة أقوى من أن تطيح بها تقارير درغام، ما يترك علامات استفهام مختلفة حول مراكز القوى الخفية في المجتمعات المماثلة التي تفتقر الى العدالة والشفافية واحترام الكفاءات. تجانب ونوس في روايتها الوقوع في شرك اللغة العاطفية والميلودرامية مقتربة في المقابل من السرد الواقعي المتسم بنبرة موضوعية وحيادية. وهي لا تتردد في هتك أحشاء الحياة الشخصية لأبطالها من دون رحمة أو تردد سواء عبر الكشف عن ميولهم وغرائزهم الجنسية الفاقعة أو عبر تسليط الضوء على المسكوت عنه من وظائف الجسد وطقوسه البيولوجية «النافرة» في بعض الأحيان. وإذ تبرع الكاتبة في رسم الملامح الشخصية والنفسية لبطل روايتها درغام فإنها تقدم بورتريه غنياً ومعمقاً ومليئاً بالتفاصيل لا للأشخاص وحدهم بل لعالم الرواية وبيئتها ومسرحها الواسع. وهي لا تتورع في هذا السياق عن الاستعانة بأرشيف الصحف أو بالأغاني المتنوعة التي تتحول الى مفاتيح مختلفة لأحوال الفرد أو الجماعة، ولو أنها بلغت في الرواية حدود الإفراط.