فاخر رئيس البرلمان اللبناني نبيه بري بأنه كان له دور الى جانب رئيسي الجمهورية ميشال سليمان والحكومة نجيب ميقاتي في اعتماد سياسة النأي بالنفس عن «شرور وتداعيات ما يجري في المنطقة»، قاصداً بذلك طبعاً، الأزمة السورية. ولموقف الرئيس بري هذا، الجديد، مغزى كبير، مهما كانت التبريرات التي ساقها، ومنها أنه في معرض إعلانه عنه غمز من قناة بعض قوى 14 آذار التي سبق أن انتقدت النأي بالنفس، لأنها تجاهر بتأييد المعارضة السورية ضد النظام وبالوقوف الى جانب انتفاضة الشعب السوري وتطالب السلطة اللبنانية بالانحياز إليها، مقابل وقوف القوى المنضوية تحت لواء قوى 8 آذار، الى جانب النظام نظراً الى دعمه للمقاومة. أهمية موقف بري الأخير باعتبار سياسة النأي بالنفس سياسة حكيمة، تكمن في أنه يصدر عن شخصية رئيسة تنتمي الى الفريق المؤيد لنظام الرئيس الأسد، تعلن رموزه انحيازها الواضح لهذا النظام وتراهن على انتصاره على المعارضة وعلى استمراره أكثر قوة وثباتاً. في الأشهر الماضية درجت العادة على أن يجاهر رئيس الحكومة نجيب ميقاتي وحده بسياسة النأي بالنفس، وأن يؤازره في ذلك الرئيس سليمان، فيما راوحت مواقف الرئيس بري بين التحذير من مؤامرة تتعرض لها سورية، والدعوة الى إحياء التفاوض السوري – السعودي لإنقاذ الوضع في سورية... وحقيقة الأمر أنه وسط الانقسام اللبناني حول تطورات الأزمة السورية، فإن من ابتدع سياسة النأي بالنفس هذه هو رئيس بعثة لبنان في الأممالمتحدة الدكتور نواف سلام، حين أصر في 3 آب (أغسطس) الماضي على أن ينأى لبنان بنفسه عن التصويت على بيان رئيس مجلس الأمن الذي دان «انتهاكات حقوق الإنسان التي ترتكبها السلطات السورية على نطاق واسع وفي حق المدنيين». وهو ما أتاح صدور البيان في حينه، لأنه لو اعترض لبنان عليه، لما صدَر. تسلّح الرئيس ميقاتي بتهديد السفير سلام بالاستقالة في حال أصرت الحكومة على تعليمات وزير الخارجية عدنان منصور بالاعتراض على البيان، آنذاك بعد تنسيقه مع قادة فريق 8 آذار ومنهم الرئيس بري، فوافق (ميقاتي) على إصرار سلام على النأي بالنفس وأبلغ رئيس البرلمان بهذا الموقف. وهكذا بات النأي بالنفس سياسة، خرقتها الحكومة بالاعتراض على قرار مجلس الجامعة العربية تعليق عضوية سورية فيها في 2 تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي، الى أن تمتثل السلطات السورية لطلب وقف القتل وسحب الجيش والسماح بالتظاهر السلمي. وسبّب هذا الخرق وجع رأس للرئيس ميقاتي في العلاقة مع الدول العربية والدول الغربية، فعاد وقرر التزام قرار الجامعة العربية التي شنّ «حزب الله» هجوماً على دولها التي لم تسلم من الانتقاد من فريق الرئيس بري نفسه. لكن ميقاتي ما لبث أن عاد الى سياسة النأي بالنفس عن الأزمة السورية حاصداً انتقادات بعض شركائه في الحكومة وحلفاء سورية، ومستظلاً عدم ممانعة بري الضمنية لاعتماد هذا التوجه. لا تعني مجاهرة الرئيس بري بتأييد سياسة النأي بالنفس سوى أن القناعة تزداد وسط القوى الحليفة لسورية، على رغم ارتفاع صوت بعضها تأييداً للنظام، بأنه لم يعد جائزاً أن تربط مصيرها بمصير نظام الرئيس الأسد. ومهما بدا النظام صامداً في وجه المعارضة، فإنه بالتأكيد لن يعود كما كان. ونفوذه في لبنان سيتراجع حكماً، هذا فضلاً عن القاعدة القائلة بأن العلاقة مع الشعب السوري باقية والأنظمة تجيء وترحل. والأرجح أن حلفاء الرئيس بري الآخرين وفي مقدمهم زعيم «تكتل التغير والإصلاح» النيابي العماد ميشال عون والأمين العام ل «حزب الله» السيد حسن نصرالله يشعرون بمخاطر ربط مصيرهم بمصير النظام السوري، حتى لو أنهم يثقون بأن ثمة عوامل مهمة مثل الموقفين الروسي والإيراني تساعده على إطالة عمره. وبالتالي لا بد لهم، وخصوصاً للحزب، من التفكير بمرحلة ما بعد النظام، وإن كانت عملية المراجعة على هذا الصعيد تتم بحياء أحياناً ومكابرة أحياناً أخرى وارتباك حيناً آخر. ويعود ذلك الى اعتقاد نصرالله وعون بأن ما زال أمامهما المزيد من الوقت. إلا أن الرئيس بري هو الأكثر قدرة على التحرك من أجل حجز مقعد المحاور الأساسي مع الفريق المناوئ للنظام السوري، والذي أُبعد عن السلطة نتيجة إصرار هذا النظام. وإذا كانت طهران تسعى الى تسوية مع «الإخوان المسلمين» في سورية كالتي أعلن عنها مساعد مراقب الإخوان محمد طيفور ل «الحياة»، وإذا كانت إيران تغطي تهيؤها للتفاوض على الملف النووي في إسطنبول تحت غبار التصعيد في مضيق هرمز، أليس منطقياً أن يواكب حلفاء سورية في لبنان هذه التطورات بسياسة تنأى بالنفس عما سيحصل؟