تستمر الانتفاضة السورية في حراكها اليومي متصدية لهجمة النظام الوحشية، وتبتكر دوما أشكالاً من التعبير عن الصمود والمواجهة على الأرض، بما يدهش العالم. في موازاة الحراك على الأرض، تعبّر القوى السياسية عن طروحات متفاوتة في الرؤيا والتحليل، منها ما تطرحه المعارضة بمكوناتها المختلفة، ومنها ما يبثه النظام في إعلامه اليومي. يستوقف المراقب تصريحات صدرت عن رئيس النظام وبعض أركانه السابقين وبعض أقطاب المعارضة، يمكن وصفها بأنها من «سقط المتاع»، وتحمل احتقاراً للشعب السوري وانتفاضته. أول الكلام ما نطق به الرئيس السوري بشار الأسد في خطابه الأخير، لم يأت الخطاب بجديد عن خطابه الأول قبل تسعة اشهر، وكأنّ شيئاً لم يتغير. ما يجري مؤامرة على سورية، الشعب السوري يحب بشار حتى العبادة، إنكار لوجود معارضة في البلاد، بل عملاء للخارج (نحن لا نريد معارضة تجلس معنا وتبتزنا تحت عنوان الأزمة لتحقيق مطالب شخصية، ولا نريد معارضة تحاورنا في السر كي لا تغضب أحداً)، رفض للاعتراف بوجود أزمة على رغم مقتل أكثر من سبعة آلاف مواطن واعتقال عشرات الألوف... كل ذلك مع إعلان صريح عن تواصل مسلسل القتل حتى ولو أدى إلى إفناء سورية بشراً وحجراً. هذه خلاصة خطاب رئيس سورية، الذي بدا وكأنه يخاطب نفسه لا شعبه، وبنرجسية وصلف أشبه بخطابات معمر القذافي في وصفه لشعبه بالجرذان وتصميمه على ذبحهم واحداً واحداً، قبل ان ينتهي تلك النهاية التي يستحقها. كلام ثان نطق به مؤخراً رفعت الأسد عم الرئيس الحالي ونائب الرئيس الراحل، الذي طُرد من سورية في سياق الصراع على السلطة. سبق لرفعت ان طرح مبادرة قبل اشهر يتولى بموجبها هو أو أحد أبنائه مقاليد السلطة ضمن «إعادة الشرعية الى أصحابها»، على أساس أن سورية ملكية مطوَّبة لآل الأسد بموجب قرارات إلهية. ثم عاد فاقترح مؤخراً مبادرة جديدة يجري بموجبها تسليم السلطة الى الشعب، على ان يكون ضمن مجلس او مؤتمر يشرف على المرحلة الانتقالية، مع دور مركزي له في هذه المرحلة، ويصرح قائلاً: «دوري سيكون وطنياً بالرجة الاولى، وسوف نحرص على المصداقية امام الوطن والشعب العظيم وتنفيذ المبادرة عند إصدارها». لا يكتفي بذلك، بل يشكك بالمعارضة وقدرتها على اسقاط النظام. ينمّ كلام الاسد العم عن احتقار فعلي للشعب السوري وذاكرته، معتقداً بأن الشعب نسي دوره في المجازر التي ارتكبها النظام في الثمانينات من القرن الماضي بل أنه كان في قلب المسؤولية عنها، وهي مجازر أودت بأكثر من ثلاثين ألف قتيل يومذاك. كما الرئيس الحالي، يبدو العم ونائب الرئيس سابقاً، غير قادرين على تصور سورية وشعبها خارج قبضتهما ومعهما سائر العصابة من العائلة ومحيطها، وهي عقدة تبدو مستعصية على الحل إلاّ بالاستئصال الجذري لها. كلام ثالث يطل به كل فترة نائب الرئيس السوري السابق عبد الحليم خدام، بعد ترك النظام، إثر إدراكه أن دوره قد انتهى مع الابن، بعد أن خدم الأب طوال فترة حكمه. الملفت في مقابلات خدام التلفزيونية وفي تصريحاته عن الانتفاضة السورية، هو ذلك التشكيك بالمعارضة والحديث السلبي عن موقعها، واتهام بعض مكوناتها بصلات خفية مع النظام. لا يكتم خدام كرهه لبشار الأسد وحديثه النقدي عن العائلة وحكمها، لكنه لا يتحدث البتة عن دوره في بناء هذا النظام وترسيخ قواعده على امتداد اربعين عاماً، وعن الولاء المطلق لحافظ الأسد. على غرار رفعت الأسد، يقدّم خدام نفسه بريئاً من الظلم والاستبداد والوحشية التي صبغت ممارسات النظام السوري، ومشيداً بالديموقراطية وممارستها وضرورة الاصلاح الجذري، من دون ان يقدم كلمة نقدية لدوره وممارسته، وكيف أنه كان المسؤول الأول الذي وقف في وجه توجهات اصلاحية كان بشار الأسد يرغب في إدخالها مع استلامه سدة الرئاسة. يبدو ان خدام غير قادر على تصور نفسه في غير موقع السلطة، فتلك عقدة تتحكم بعقله، على رغم ادعاءاته بعدم الرغبة الى العودة الى السلطة، وأنه يريد دوراً «رسولياً وتبشيرياً» ليس إلاّ. كلام رابع يمكن وصفه بالإسفاف والابتذال، صدر عن النائب السابق في مجلس الشعب السوري مأمون الحمصي، المقيم في القاهرة والمدّعي انتسابه الى المجلس الوطني السوري المعارض. اقتحم الحمصي اجتماع اللجنة الوزارية وصاح شاتماً الجامعة بصراخ ان «العلويين والشيعة يقتلون السنة في سورية». هكذا اختصر النائب الجليل الانتفاضة السورية بكونها صراعاً مذهبياً يستوجب استثارة عصبية الشعوب العربية وأنظمتها ذات الغلبة السنية من اجل القضاء على العلويين والشيعة. ينسى السيد الحمصي ان جميع الطوائف والمذاهب منخرطة في الانتفاضة ومن موقع وطني لا مذهبي، وهدفها الأساسي إسقاط نظام ديكتاتوري يضم في صفوفه معظم الطوائف، وان كان يعطي الهيمنة لبعض القوى الطائفية. لمعلومات السيد الحمصي، أن أقساماً واسعة من المناطق ذات الغلبة العلوية والشيعية تشارك في التظاهرات، بل تتلقى عقاباً مضاعفاً من النظام على مشاركتها هذه، ويجري اتهامها بالخيانة لطائفتها. يسيء كلام الحمصي وأشباهه الى الانتفاضة وينتقص من توجهاتها السياسية وأهدافها في إقامة حكم ديموقراطي ومدني يمثل مصالح المجموعات السورية من دون أي تمييز. ستظل الانتفاضة السورية عرضة لقوى تسعى الى الانقضاض عليها وحرفها عن مسارها، من اركان النظام الحاليين والسابقين منه، كما ستكون ايضاً عرضة لقوى انتهازية تتسلق عليها وتدعي النطق باسمها، وهو ما يمكن رؤيته على امتداد جميع الثورات في التاريخ. إن المعارضة السورية تقف امام تحدي بلورة خطابها السياسي الواضح وبرنامجها الوطني، ووضع حد للمدّعين النطق باسمها زوراً. * كاتب لبناني