ليس غريباً بعد عقود من حكم الفرد والديموقراطية الشكلية وغياب مؤسسات الدولة أن يعاد في مصر تأسيس «بديهيات»، وأكثر ما يثير الدهشة تعاطي وسائل إعلام مصرية مع مسألة التحالف أو التنسيق بين الأحزاب والقوى السياسية، وكأنها ترتكب جرماً أو تأتي بعمل غير أخلاقي، أو تخالف القانون! صحيح أنها المرة الأولى منذ عقود التي تفرز الانتخابات البرلمانية في مصر نواباً وصلوا إلى البرلمان بإرادة شعبية حقيقية، بغض النظر عن رغبات السلطة الحاكمة، لكن البديهي أيضاً أن تدخل القوى الممثلة في البرلمان في نقاشات وحوارات، وأن تعقد صفقات لرسم طريق العمل السياسي في مرحلة ما بعد الانتخابات. يحدث هذا في كل دول العالم التي تعرف الديموقراطية، ويجب أن يحدث في مصر بعد الثورة. وطبيعي جداً أن يسعى حزب «الإخوان» الذي حصد حصيلة وافرة من المقاعد ولكن من دون الغالبية المطلقة إلى تكوين ائتلاف داخل البرلمان مع حزب آخر أو أكثر ليضمن تمرير القوانين التي يعتقد أنها في صالح البلاد والعباد، وكي يؤمن الأكثرية التي تكفل تحقيق واجب الرقابة على الجهاز التنفيذي. وفي المقابل، فالمنطقي أن تسعى القوى المدنية المعادية للإسلاميين عموماً و»الإخوان» والسلفيين خصوصاً إلى منع احتكار الإسلاميين الأكثرية البرلمانية، وأن تحاول أن تشكل تحالفاً يتجاوز عدد أعضائه نصف مقاعد البرلمان، وإذا لم تنجح فإن تشكيل جبهة مضادة للإسلاميين داخل البرلمان يعد أمراً مشروعاً طالما أن موقف هذه القوى من الأساس متناقض مع الإسلاميين. وليس من العيب أن تعرض الكتلة البرلمانية، الأكبر عدداً، على نواب حزب ما بعض المزايا، كمواقع في اللجان البرلمانية، أو حتى حقائب وزارية مقابل الدخول في التحالف، وقد تتسابق كتلتان برلمانيتان على جذب نواب مستقلين أو حزبيين لتزيد من قاعدتها البرلمانية، بحيث تضمن رسوخ التحالف وعدم تعرضه للانهيار إذا انسحب منه نواب ينتمون لأي طرف نتيجة نزاع سياسي أو خلاف تفرضه الظروف. في هذا الإطار يمكن فهم الاتصالات والنقاشات التي تدور بين القوى السياسية المصرية الآن، خصوصاً أنها جميعاً تساهم في بناء نظام سياسي جديد لمصر بعد الثورة، فالأمر لا يتوقف عند الأمور البرلمانية المعتادة، ولكن أيضاً يمتد إلى وضع الدستور وتشكيل الحكومة إذا أُقر النظام البرلماني أو النظام المختلط، وليس عيباً أن يتحالف حزب ليبرالي مع آخر إسلامي أو أن يأتلف حزب اشتراكي أو يساري مع الكتلة الليبرالية طالما أن أحداً من النواب لم يفرط في قناعاته السياسية. والمؤكد أن عودة حزب الوفد إلى التحالف الديموقراطي الذي يقوده حزب «الحرية والعدالة» (الإخواني) سيخفف من مخاوف أحزاب ليبرالية أخرى ترفض أي تعاون مع الإسلاميين، ويسهم في الوقت ذاته في كبح جماح نواب «الإخوان» إذا اعتقدوا أنهم الأقوى، إذ تتهدد هذه القوة ويضعف ذلك التأثير إذا أقدم الوفد على الخروج من التحالف. واللافت أن المعركة الانتخابية أثبتت فشل الوسائل التي اتبعتها القوى المدنية في تحقيق انتصار أو اقناع جموع الناخبين بعدم الاقتراع للإسلاميين، ولن يفيد تلك القوى الاستمرار في استخدام الآليات نفسها في المنافسة داخل البرلمان، فاستخدام «الفزاعة» لتخويف المواطنين من «الإخوان» أو السلفيين لم يحرم الإسلاميين اكتساح الانتخابات، والأفضل الآن أن تدرس القوى المدنية أخطاءها وتظهر مزاياها وبرامجها وتتجاوز اللعب على أوتار عيوب المنافس. أما الإسلاميون فأصبحوا أمام اختبار صعب، فالآليات التي ظلوا يستخدمونها عقوداً وهم في مواقع المعارضة لا تصلح وهم الأكثرية في البرلمان أو الحكم. صحيح أن الشارع ما زال ملتهباً لأسباب عدة، لكن أداء القوى السياسية في الحكم والمعارضة في المرحلة المقبلة لن يحدد فقط ما إذا كانت مصر مقبلة على ازدهار أو إخفاق ولكن سيكشف أيضاً الأوزان الحقيقية لكل تلك القوى التي ما زالت شكوك تدور حول تمثيلها للشارع والناس. والمؤكد أن سلوك كل القوى السياسية في مسألة الدستور إما أن يكسبها تأييد جموع الشعب، أو يفضحها ويزيد المسافة بينها وبين القوى الثورية التي ما زالت غاضبة ومتحفزة ضد كل من تعتبر أنه ترك الثورة ومضى في البحث عن نصيبه من كعكتها، بغض النظر عن كون المسار الديموقراطي في أولى خطواته، فالشعب حين خرج في ثورة أراد إسقاط النظام وليس إعادة انتاجه ولو بوجوه كانت في مواقع معارضة للنظام الذي يفترض أنه ... سقط.