ترمي الكرة لتصيب هدفاً تعتقد أنه أكيد. فأنت واقف على مسافة قريبة جداً من المرمى وحدك ولا يزاحمك أحد، بل إن المرمى لا يحميه أحد من الأساس. وعلى رغم ذلك، لا تسجل الهدف، بل وتعود الكرة إليك مسددة ضربة عنيفة إلى أنفك وتكاد تكسره. عشرات الائتلافات والحركات والتيارات الشبابية تتحرك هذه الأيام في محاولات مستميتة، وإن كانت عالية الصوت، لاستثارة المصريين من أجل نزولهم إلى الشارع مجدداً. فلا يكاد يمر يوم من دون أن يصحو فيه الجميع على أنباء حركة جديدة مهمتها توعية من لا وعي سياسياً عنده، أو ينامون على أصوات ضجيج واشتباكات بين شباب يقولون إنهم يعرضون حقيقة ما يحدث هذه الآونة من قبل المجلس الأعلى للقوات المسلحة وبين مارة أو باعة جائلين أو بلطجية. الثورة المصرية التي توشك على إطفاء شمعة عيدها الأول توشك أيضاً على إطفاء فتيل الشباب أصحاب الثورة الأصليين الذين يشعرون بأن ثورتهم قد سلبت ونهبت نهاراً جهاراً أمام أعينهم، تارة بانتخابات حرة نزيهة أتت بمن حرم الثورة وكفرها ليكوّن غالبية برلمانية، وتارة بمجلس عسكري تربطه به علاقة «حب – كراهية» غير مفهومة! وانتهى الحال بعدد من شباب الثورة لا يجدون سوى هواء الإعلام للبقاء على قيد الحياة، ومنه ما هو هواء تلفزيوني يستضيفهم بين الحين والآخر ليصبوا جام غضبهم على المجلس العسكري تارة، والحكومة القائمة تارة، والناخبين الذين أعطوا أصواتهم للإسلاميين تارة ثالثة، والكنبويين الذين يرفضون أن يتزعزعوا قيد أنملة من على كنباتهم تارة رابعة. ويلاحظ أن هذا النوع من الهواء بدأ يتقلص مع المجريات الانتخابية وتغلب الوجوه البرلمانية الجديدة والأحزاب والتيارات الفائزة ومن ثم حصولهم على نصيب الأسد من ساعات البث التلفزيوني. وبدلاً من أيام وأسابيع الثورة الأولى التي شهدت تربعاً إعلامياً لشباب الثورة على قمة القنوات الفضائية وبرامج ال «توك شو» التي أفردت أثيرها لهم ولغيرهم من المشيدين بقدراتهم ووطنيتهم وثورتهم، فرضت «سنة الإعلام» قواعدها وبات القادمون الجدد إلى الساحة سواء أطلق عليهم «اختيار الشعب» عبر صناديق الانتخاب، أم من ركبوا الثورة من دون وجه حق بحكم عدم مشاركتهم فيها، بل ومعارضتهم لها، يزاحمون الشباب تلفزيونياً ليس فقط في المساحة المفردة لهم، بل في وضعهم أمامهم باعتبارهم جبهتين مضادتين. ومن التضاد التلفزيوني إلى هواء الفضاء الإلكتروني - وله الفضل الأول والأخير في انطلاق أولئك الشباب في المقام الأول - وهو الفضاء الذي يتيح لهم القدرة على التنظيم والتخطيط، وحشد الآخرين لفاعلياتهم المستمرة للمشاركة فيها وإبلاغ أقرابهم وأصدقائهم وجيرانهم ومعارفهم بغرض المشاركة. إلا أن ما يحدث على الأثيرالعنكبوتي يعكس نبض جانب غير قليل من الشارع تجاه أولئك الشباب. فمثلاً أعلنت مجموعة من التيارات الشبابية الثورية عن شن حملة «عسكر كاذبون» أو «كاذبون»، ومهتمها وفق ما أعلنوه على صفحتهم على «فايسبوك»: «حالنا هو حال كل مصري خايف على بلده، تعبنا من كذب العسكر والحرامية، وعلشان كده لازم نفضحهم ونكشفهم. لازم نوعي الكنبة والمغيب والخايف واللي مش فارقة معاه، علشان مصر لازم تنتفض بحق وحقيقي، وعلشان مش ها نسمح لحد يغتصب ثورتنا». وهم في سبيل ذلك يحضّون الجميع على حضور عروض ما يصفونه ب «فضح ممارسات العسكر» على شاشة عرض ضخمة يجوبون بها الميادين والأحياء، لا سيما الشعبية. وعلى رغم أن غالبية مرتادي الصفحة يؤيدون الحملة ويؤكدون أنهم سيحضرون العروض مسلحين ب «فلاش ميموري» لنقل العروض وعرضها على الأهل والأصدقاء، فإن ما يحدث على أرض الواقع بعيد تماماً عن الأرض العنكوبتية. ففي كل مرة ينزل فيها أعضاء «كاذبون» إلى ميدان أو شارع بشاشة العرض، يتعرضون فيها للسب والشتم والضرب، سواء من الباعة الجائلين الذين يعتبرون تجمهرهم عقبة أمام لقمة عيشهم، أم من قبل المارة الذين يتهمونهم بالعمالة والخيانة وتلقي أموال من جهات خارجية، وهو ما يؤكد تزايد الفجوة بين جانب من شباب الثورة من جهة وبين فئات الشعب المختلفة من جهة أخرى. تعليقات أخبار الاعتداء على شباب «كاذبون» على المواقع الإخبارية تهيمن عليها نبرة الرفض والتنديد بما يقومون به. «اسم حركتهم كاذبون وهم فعلاً كاذبون»، «لماذا لا تعرضون حرق المجمع العلمي وهو يحترق، والبلطجية وهم يروعون الآمنين، كفاكم تخريباً»، «أقترح عمل صفحة «خائنون» لنشر فضائح 6 أبريل ومن على شاكلتهم»، «الجيش والشعب يد واحدة رغم أنف الكاذبين». ومع تكرار تعرض أعضاء الحملة للضرب والشتم، اقترح البعض أن يغيروا اسم حملتهم إلى «مضروبين!». سائق سيارة أجرة يلخص الشعور الذي ينتاب كثيرين بقوله: «أولئك الشباب على عينا وعلى رأسنا، لكن الحكاية طالت جداً والموضوع كله أصبح «بايخ». مبارك يحاكم، والجنزوري يحاول إنقاذ ما يمكن إنقاذه، والانتخابات تم إنجازها والشعب قال كلمته. حتى لو هناك شبهات أو أخطاء من قبل المجلس العسكري، واجبنا أن نصبر لحين اختيار رئيس ونخلص! أما أن يصر أولئك الشباب على الفوضى واللعب بقوتنا ومستقبلنا، فلا وألف لا!». كثيرون من التيارات والائتلافات الشبابية يجدون أنفسهم في ورطة هذه الأيام، فعلى رغم أن بعضهم ما زال ثائراً بسبب ما يمكن رؤيته بالعين المجردة من تباطؤ من قبل المجلس العسكري في حل الأزمات التي أسفرت عن ضحايا وشهداء جدد من «أطفيح» إلى «ماسبيرو» إلى «الشيخ ريحان» و «مجلس الوزراء» من دون حتى الإعلان عن متهمين بأعينهم، يبدو لبقية أطياف الشعب أن الواقع مختلف بعض الشيء. فالجميع يرى انتهاكات حدثت، ويسلم بأخطاء فادحة وقعت، إلا أنهم يرون كذلك إنجاز العملية الانتخابية وقرب عقد أول مجلس شعب (برلمان) منتخب. وهم يرون كذلك، أو بالأحرى يعايشون بأنفسهم – ظروفاً حياتية اقتصادية وأمنية لا يحسدون عليها. وظائف كثيرة فقدت، وأعمال تعطلت، وبلطجية ظهروا على السطح من كل حدب وصوب، وفوضى عارمة في الشارع، وفي خضم كل ذلك يرون مجموعات من الشباب تتحرك بلافتات متقنة الصنع، وأجهزة عرض بالغة التقنية، ومنشورات مطبوعة بعناية يحاولون من خلالها حشد القوى الشعبية من أجل ثورة ثانية. «تعبنا ومللنا ونبحث عن دقيقة هدوء واستقرار»، يقول حازم محمد (28 عاماً)، موظف في شركة سياحة أغلقت أبوابها قبل أسابيع لركود السوق. ويضيف: «أنا من أكبر المعارضين للحكم باسم الدين، ومن أكثر الخائفين على مستقبل مصر المنفتحة المتنورة في ضوء سلطة تدعي لنفسها أنها تحكم باسم الله. وعلى رغم ذلك فقد بلغت درجة من الضغط النفسي والمادي ما يجعلني مستعداً لحكم الإخوان والسلفيين، ومعارضاً شرساً لاستمرار جماعات شبابية تصر على الوجود في الشارع، ومعاداة الجميع، بدءاً بالمجلس العسكري، ومروراً برجل الشارع المتضرر أصلاً، وانتهاء بإرادة الشعب التي اختارت من يحكمه!». أزمة الثقة الحادثة في الشارع المصري تدعو شباب الثورة إلى البحث عن طريقة تدفع الشارع إلى رفع شعار «الشعب والشباب يد واحدة!».