من المتعارف عليه أن رأس المال جبان، وبالتالي فإنه يهرب بسرعة عندما يرتفع مستوى الأخطار، سواء السياسية أو الاجتماعية أو الأمنية أو الاقتصادية. ونلاحظ خلال هذه الفترة تراكم الودائع لدى البنوك في مختلف أنحاء العالم هرباً من المغامرة. تستحوذ الأخطار السياسية والأمنية والاجتماعية على نصف المؤشر المركب لقياس تلك المتعلقة بالاستثمار في أي بلد. وتعتبر أسواق الأسهم أو البورصات، التي هي «بارومتر» الاقتصاد، أكثر الأسواق حساسية تجاه أيه تطورات أو أخطار اقتصادية أو سياسية أو اجتماعية أو أمنية إيجاباً أو سلباً. وبالتالي نلاحظ تقلب مؤشرات هذه الأسواق عندما تحدث أية تطورات استثنائية. وهذا ما حدث في مصر خلال العام الماضي إذ خسرت البورصة نحو 200 بليون جنيه (33 بليون دولار) أو ما نسبته 50 في المئة من قيمتها، وتراجعت قيمة تداولاتها إلى أدنى مستوياتها في سبع سنوات نتيجة عدم الاستقرار السياسي والأمني والاجتماعي، وتأثيره السلبي على مناخ الاستثمار والبيئة الاستثمارية، والذي أدى إلى بيع عشوائي لأسهم الشركات المدرجة في البورصة سواء من قبل الاستثمار الأجنبي أو الاستثمار المحلي. وللمرة الأولى في تاريخ البورصة يتم تعليق التداول فيها نحو 55 يوماً نتيجة موجة الاحتجاجات والاعتصامات والمواجهات الدامية والانفلات الأمني، خلال فترات زمنية مختلفة العام الماضي. كما أن البورصات تتأثر أيضاً بالإشاعات التي لعبت دوراً سلبياً خلال العام الماضي في أداء البورصة. وكانت حصيلة الاستثمارات الأجنبية في البورصة خلال العام الماضي بيع أسهم ب 2,5 بليون جنيه في مقابل شراء ب 9 بلايين عام 2010. كما تأثر أداء البورصة بتراجع أداء الكثير من القطاعات الاقتصادية والإنتاجية وفي مقدمها قطاعات السياحة والاستثمار المباشر والصادرات، والمصارف والخدمات، إضافة إلى قيام مؤسسات التصنيف الائتماني العالمية بخفض التصنيف السيادي لمصر والكثير من المصارف أكثر من مرة، نتيجة ارتفاع أخطار الإقراض بسبب الضبابية السياسية وتأثر الجنيه المصري سلباً بهذه التطورات وهبوط سعره إلى أدنى مستوى في سبع سنوات مقابل الدولار. وأدى ذلك إلى ارتفاع مستوى التضخم إلى 9 في المئة وبالتالي إلى انخفاض القوة الشرائية للجنيه وهبوط سعر صرف الجنيه. وتأثرت العملة المصرية سلباً بتراجع الاحتياطات الأجنبية التي انخفضت بنسبة 44 في المئة من 36 بليون دولار إلى 20 بليوناً، نتيجة انخفاض دخل السياحة التي تشكل مصدراً رئيساً للعملة الأجنبية، وتراجع الاستثمار الأجنبي بنسبة كبيرة، والصادرات التي تأثرت بالأزمة المالية العالمية. ويضاف إلى ما سبق، التحويلات إلى الخارج، سواء من مستثمرين أجانب أو عرب أو مصريين، وتقليص المساعدات، ما أدى إلى خلل واضح في ميزان المدفوعات. وزاد عجز الموازنة إلى ما بين 10 و11 في المئة من الناتج المحلي الأجنبي، ومعدلات البطالة وكلفة الاقتراض المحلي إلى أكثر من 15 في المئة. وتأثرت البورصة سلباً بإغلاق البنوك أبوابها للمرة الأولى في تاريخها أمام الجمهور لنحو شهر، ووضع حد أقصى للسحب خوفاً من هروب الأموال، إذ عانى القطاع المصرفي الأحداث السياسية والأمنية. فارتفعت أخطار السوق وتدنى مستوى الجدارة الائتمانية للمقترضين، إضافة إلى حالة الخوف التي انتابت المودعين وخسائر البنوك من استثماراتها في البورصة والتي تقدر ببليوني جنيه، وتقلص نسبة الإقراض إلى حجم الودائع إلى مستوى 50 في المئة، ما أدى إلى تراجع ربحية البنوك وأثر سلباً على نشاط الاقتصاد وحد من خلق فرص عمل. يعود خفض التصنيف الائتماني للكثير من المصارف، إلى تنامي تعاملها مع السندات السيادية المصرية وضعف الاقتصاد الكلي والبيئة السياسية المتقلبة، ما يشكل عبئاً على قيمة أصولها. إلا أن السلوك الحضاري للانتخابات البرلمانية أكد رغبة جميع الأطراف في استقرار الأوضاع السياسية والأمنية، وشكل مؤشراً على رؤية مستقبلية إيجابية للاقتصاد. وأرسلت الانتخابات إشارات طمأنة وثقة بمستقبل مصر السياسي والاقتصادي، وهذا بالطبع يؤدي إلى تحسن ملموس في التصنيفات الائتمانية من قبل المؤسسات المالية العالمية. ويساهم الجدول الزمني الذي حدد انعقاد البرلمان في نيسان (أبريل)، ثم وضع دستور فانتخابات رئاسية في نهاية حزيران (يونيو)، في إرساء هياكل ديموقراطية وبيئة تشريعية آمنة وإدارة سريعة وكفوءة. ونجاح هذه الإجراءات يعزز الثقة ويساهم في عودة الاستثمار الأجنبي بقوة، سواء المباشر أو في البورصة. وبالتالي فإن التطورات الاقتصادية والسياسية والمالية والأمنية خلال هذا العام سيكون لها أثر واضح على أداء البورصة وعلى الاستثمار بثقة في أسهم الشركات المدرجة. * مستشار للأسواق المالية في «بنك أبو ظبي الوطني»