عندما هزمت الثورة الفرنسية على أيدي قوى العالم القديم في لندن وفيينا وسانت بطرسبورغ، مع هزيمة نابليون بونابرت في معركة واترلو عام 1815، ذهب فرنسي اسمه أليكسيس دو توكفيل (1805-1859) إلى أميركا في الثلاثينات. وكان أكثر ما أثار انتباهه «المساواة العامة السائدة هناك في الأوضاع الاجتماعية»، بخلاف الفروق الطبقية الموجودة في القارة العجوز، وهو ما دفعه إلى كتابة دراسته (مجلدان) عن «الديموقراطية في أميركا» (1836-1839) التي هي محاولة لتفسير لماذا نجحت الثورة الأميركية المجايلة لثورة 1789 الفرنسية، وهو كتاب ما كان ممكناً من دونه وصول توكفيل إلى مؤلفه الثاني: «المجتمع القديم والثورة» (1856) الذي يعد، في العلوم السياسية، ليس من أهم الدراسات عن الثورة الفرنسية فحسب، وإنما الأكثر إحاطة في موضوع تحول اتجاهات المجتمع القديم الكامنة إلى لحظة انفجارية اسمها «الثورة». عبرت تجربة توكفيل عن كيف كان ينظر سكان العالم القديم إلى القارة الجديدة عند الشاطئ الغربي للأطلسي: «المهاجرون لأميركا منذ بدايات القرن السابع عشر فصلوا المبدأ الديموقراطي عن كل ما كان يربطه بالمجتمعات الأوروبية القديمة، وجعلوه خاصاً بالعالم الجديد، وهذا ما أتاح لهم نجاحاً أكبر في ترسيخ الحرية وجعلها أكثر نفاذاً في القوانين والتشريعات». هذا المقتطف من توكفيل كان يشاركه الرأي فيه شخص اسمه كارل ماركس في اليسار وآخر اسمه جون ستيوارت ميل الذي قدم في كتابه «في الحرية» (1859) الفلسفة السياسية لليبرالية بعد أحد عشر عاماً من صدور»البيان الشيوعي». في أيام ثورات 1848-1849 كان الثائرون ما زالوا يرون الجبهة المضادة، مثل روبسبيير ودانتون ونابليون، في لندن وفيينا وعند القيصر الروسي، ولم يكن هذا رأيهم في واشنطن. استمر هذا في أيام كومونة باريس (1871)، وحتى عندما استعان البريطانيون والفرنسيون بقوى العالم الجديد ضد الألمان عام 1917 ليحسموا الحرب العالمية الأولى، فإن الرئيس الأميركي وودرو ويلسون، عندما ذهب إلى مؤتمر فرساي عام 1919 وعرض مبادئه حول «حق الأمم في تقرير المصير»، قد واجه الصدود والرفض من زعيمي القوتين الإستعماريتين المنتصرتين، أي لويد جورج وكليمنصو، وهو ما ساهم كثيراً في العودة السريعة للأميركيين إلى العزلة القديمة وفقاً ل «مبدأ مونرو» عن العالم القديم حتى أيقظتهم منها غارة الطائرات اليابانية على مرفأ بيرل هاربور (7 كانون الأول/ديسمبر1941)، وليتزعموا العالم الغربي إثر هزيمة هتلر واليابانيين. في الحرب الباردة مع السوفيات (منذ آذار/ مارس1947) تغيَرت صورة واشنطن مع الثورات: أصبح المقياس عند الأميركيين للأوضاع في كل بلد هو من خلال مسطرة الصراع مع موسكو، وهذا ما جعلهم يقفون ضد كل ثورات أو تحولات اقتصادية - اجتماعية، تأتي من قوى حاكمة أو من تحت، كانوا يشتمّون منها رائحة يسارية، أو تتوجه ضد حكام هم على تحالف مع واشنطن. من هنا، كان تدبير ال «سي أي إيه» لانقلابين في ايران 1953 وغواتيمالا 1954 ضد أوضاع ثورية، وتأييدها لانقلابات عسكرية ديكتاتورية يمينية لتجاوز أوضاع وتحولات رأت فيها العاصمة الأميركية خطراً على مصالحها (إندونيسيا 1965 وتشيلي 1973) أو تجربة ديموقراطية كانت ستؤدي إلى نمو متزايد للقوى اليسارية (برازيل 1964)، وهو ما استمر إلى عام 1979 الذي شهد مواجهة واشنطن لثورتين منتصرتين على حكام كانوا على تحالف مع الأميركيين في ايران ونيكاراغوا. النجاح مع «تضامن» في العام التالي انقلبت الصورة: ما لم تستطعه العاصمة الأميركية في تجيير ثورة يمينية من حيث التوجه الأيديولوجي، مثل الثورة الخمينية، استطاعته مع الثورة البولندية الفاشلة (آب/أغسطس 1980- كانون الأول/ديسمبر 1981)، بقيادة نقابة التضامن، والتي كانت موجهة ضد حكم شمولي لحزب واحد موال لموسكو، وتحمل توجهاً ديموقراطياً، ولكن عبر أيديولوجية يمينية ليبرالية، بخلاف ما رأيناه في تجربة ديموقراطية يسارية، مثل التي قادها سلفادور أليندي في تشيلي 1970-1973، وكانت عبر تحالف حزبه الاشتراكي مع الشيوعيين. هنا، رأينا، وطوال عقد الثمانينات الذي تحول فيه التوازن العالمي لغير صالح السوفيات، تخلي الأميركيين عن الحكام العسكريين الموالين لهم في الشرق الآسيوي (الفيليبين 1986 وكوريا الجنوبية 1987) وفي أميركا اللاتينية، وتشجيعهم ورعايتهم لإقامة أنظمة ديموقراطية ليبرالية: في عام1989 امتزج الاتجاه الديموقراطي الليبرالي مع النزعة الثورية في ثورات مجتمعات أوروبا الشرقية والوسطى ضد أنظمة الحزب الواحد الموالية للكرملين، وقد كان الانضمام اللاحق لدول حلف وارسو إلى حلف الناتو وإلى الاتحاد الأوروبي ليس فقط تعبيراً عن انهيار كتلة أمام أخرى في مواجهة الحرب الباردة وإنما أيضاً تعبيراً عن انهيار نموذج أيديولوجي - سياسي أمني - ثقافي اقتصادي - اجتماعي أمام واحد آخر مواجه له، ولكن عبر ثورات داخلية كان اختلال التوازن العالمي عاملاً مشجعاً على هبوب رياحها. لهذا، كان المحافظون الجدد في عهد بوش الإبن، ومعظمهم من التروتسكيين القدامى مثل ريتشارد بيرل وبول وولفوفيتز ودوغلاس فيث، يظهرون بمظهر الثوريين الذين يريدون تغيير العالم عبر مذهب ديموقراطي ليبرالي كما كان تروتسكي عبر الاشتراكية الماركسية في عام1917، فيما أصبح شخص مثل هوغو تشافيز في فنزويلا، وهو الفائز في صندوق الاقتراع الانتخابي، يجد نفسه في حلف لا يتجاوز نوعية أنظمة، مثل تلك التي عند أحمدي نجاد وكيم جونغ إيل، من أجل مواجهة واشنطن. في العالم العربي كانت الليبرالية الاقتصادية غير متمازجة مع الديموقراطية عند الحكام الموالين لواشنطن في القاهرةوتونس والجزائر خلال فترة 1990-2010، وذلك بسبب خشية العاصمة الأميركية من أن تحمل العملية الانتخابية قوى اسلامية لم يكن البيت الأبيض مطمئناً لها. في صيف 2009 كادت ثورة يمينية، ذات طابع ديموقراطي ليبرالي، أن تنتصر في طهران، وقد لاقت تشجيعاً من واشنطن. خلال ثورات عام 2011 العربية، في تونسوالقاهرة، استطاع باراك أوباما أن يكرر ملاقاة العاصمة الأميركية لثورات 1989 وتجييرها ضد الحكام الموالين للسوفيات ولكن هذه المرة مع ثورات ضد حكام موالين لواشنطن ويشكل قوتها المحركة اسلاميون ظلوا لعقدين سبقا من الزمن في خصومة ومواجهة مع الأميركيين، وهم يحملون أيديولوجيا يمينية محافظة، مع نزوع ديموقراطي ليبرالي في التوجه السياسي - الاقتصادي، فيما لم يستطع ذوو التوجه الأيديولوجي الليبرالي قيادة هذه الثورات في القاهرة أو تونس، أو أن يفوزوا بعملياتها الانتخابية، بخلاف الاسلاميين. قد تطرح هذه الثورات العربية اشكاليات فلسفية - فكرية: ثورات تقدمية من حيث استبدال نظام ديكتاتوري بآخر ديموقراطي انتخابي يتيح تمثيلية سياسية حرة للطبقات والقوى الاجتماعية، وحريات فردية أكبر في السياسة والفكر والثقافة، لكنها قد تكون مؤدية إلى زيادة التبعية والاستقطابية في السياسة الخارجية لصالح قوى الخارج الغربي الأميركي الذي ظل يسعى منذ عام 1951 لجعل اقليم الشرق الأوسط ضمن المنظومة الأمنية الإمتدادية لحلف الناتو. * كاتب سوري