صادف العام الماضي مرور 20 سنة على عقد مؤتمر ريو دي جانيرو الشهير عن البيئة في البرازيل، والذي ادخل للمرة الأولى مفهوم التنمية المستدامة بأبعادها الثلاثة: الاقتصادية والاجتماعية والبيئية. وطالب الدول بأن تتبنى هذا المفهوم الجديد وتسعى إلى تحقيقه وتستنبط معايير لقياسه بدلاً من استمرار الالتزام بالمفهوم التقليدي للتنمية الاقتصادية والذي، إن أدى إلى زيادة معدلات النمو الاقتصادي متمثلة في إجمالي الناتج المحلي، فإنه لا يضمن تحقيق تنمية اجتماعية وعدالة في توزيع الدخل كما قد يتحقق على حساب التدهور البيئي. وعلى رغم حجم ما قيل وما كتب عن الموضوع منذ ذلك الوقت، لم يحقق العالم إلا القليل في مجال التنمية المستدامة، وحل القرن الحادي والعشرون، والعالم يواجه مشكلتين تتسع خطورتهما باضطراد: التغير المناخي الذي بدأ يشعر به كل الدول، وانحسار فرص العمل خصوصاً بين الشباب. وفي حزيران (يونيو) 2007، أطلق رئيس منظمة العمل «مبادرة الوظائف الخضر» (Green Joobs Initiative)، والتي تعني باختصار: تحويل الاقتصادات والمشاريع وأماكن العمل وأسواقه إلى اقتصاد مستدام لا يصدر إلا القليل من الكربون ويؤمّن وظائف محترمة للجميع. وتسعى المبادرة من خلال الشراكة مع برنامج الأممالمتحدة للبيئة والاتحاد الدولي لنقابات العمال والمنظمة العالمية لأصحاب العمل، إلى تشجيع الحكومات وأصحاب العمل والعمال للانخراط بجدية في وضع سياسات متناسقة ومتجانسة وبرامج عمل فعّالة وتطبيقها، لتحقيق فكرة الوظائف الخضر من خلال: 1- خفض الآثار البيئية للمشاريع الصناعية والقطاعات الإنتاجية إلى مستويات تكون في الآخر مستدامة. 2- تقليص استخدام الطاقة والمواد الأولية وترشيده وإعادة تدوير النفايات وتقليص التلوث، وتطبيقها على كل الدول وكل القطاعات وكل أنواع المشاريع في المناطق الريفية والمدن وعلى كل أنواع المهن. وبينت المنظمة أن ما تدعو إليه ليس بعيداً من الواقع، اذ هناك الكثير من الدول التي تبنت مجموعة من الأنشطة الاقتصادية مع استثمارات كبيرة لتحضير اقتصاداتها لهذا التغير، مثل الولاياتالمتحدة واليابان والاتحاد الأوروبي والصين وكوريا الجنوبية. وقدم برنامج الأممالمتحدة للبيئة بالتعاون مع منظمة العمل الدولية وجهات أخرى تقريره «الوظائف الخضر: اتجاهات نحو خلق وظائف محترمة في عالم قليل الكربون في شكل مستدام» في حزيران 2008، أشار فيه الى أن السعي الى معالجة مشكلة التغير المناخي ربما ينتج ملايين «الوظائف الخضراء» في العقود المقبلة، وأن فرصاً من هذا النوع قد أوجدت فعلاً في الكثير من الدول النامية والاقتصادات الناشئة مثل الهند والبرازيل والصين وجنوب أفريقيا ونيجيريا. وتحاول منظمة العمل من خلال تقديم برامج تدريبية بالتعاون مع منظمات أخرى، تشجيع الدول على تبني هذه الفكرة. لا شك في أن ترشيد استخدام المواد الأولية والطاقة والتحول إلى مصادر بديلة شمسية وهوائية ومائية، سيؤمّن فرص عمل جديدة كما سيقضي في الوقت ذاته على فرص عمل قائمة يمكن تحوير بعضها لتنسجم مع التغيرات الجديدة، وسيندثر بعضها الآخر بسبب انتفاء الحاجة إلى وجودها، وهذا أمر حتمي يتحقق مع كل اختراع جديد. لكن الربط بين سياسات الحفاظ على البيئة لوقف التدهور المناخي وبين خلق وظائف جديدة تحل مشكلة البطالة والفقر، خصوصاً عندما لا يكون الهدف تجربتها على نطاق محدود إنما تعميمها لتعطي نتائج جماعية ناجحة وملموسة، توقف التدهور السريع في المناخ العالمي وتقضي على مظاهر الفقر والبطالة بين الدول، يعتبر من قبيل المبالغة في تبسيط موضوع معقد وإعطاء مؤشرات خاطئة خصوصاً للدول النامية. ففي وقت تعتبر الدول المتقدمة مصدر التلوث البيئي بسبب التركز الصناعي فيها والمستويات العالية من الاستهلاك، فإن مناطق تركز البطالة خصوصاً بين الشباب هي في الغالب الدول النامية. لذلك، فإن معالجة هاتين المشكلتين تتطلب حلولاً مختلفة. فتردّي المناخ بسبب التلوث البيئي مشكلة دولية تتطلب حلولاً دولية والتزاماً من كل الدول تحديداً الصناعية منها، خصوصا أن «بروتوكول كيوتو»، الذي رفضت الولاياتالمتحدة توقيعه طيلة خمسة عشر سنة، سينتهي العمل به في نهاية العام الحال. السؤال الذي يجب أن يثير اهتمام المجتمع الدولي هو: ما هو الاتفاق الذي سيحل محل «بروتوكول كيوتو»؟ وكيف ستقتنع الدول الصناعية بالالتزام به؟ أما مشكلة البطالة خصوصاً في الدول النامية والفقيرة، فهي ذات أسباب اقتصادية واجتماعية وسياسية داخلية بالدرجة الأولى، في مقدمها تركيز الإنماء على مناطق محددة وعدم توزيعه جغرافياً، وإهمال تطوير القطاع الزراعي، والفساد الإداري والمالي، وتخلف أنظمة التعليم عن مواكبة حاجات السوق وضعف المتابعة والتقويم لبرامج ومشاريع التنمية الاقتصادية. وهذا ما لم تستطع معظم الدول النامية معالجته لحد الآن. يضاف الى ذلك أن الكثير من الدول النامية لا يزال مسرحاً للحروب والاضطرابات السياسية التي تسبب تردياً عاماً فيها، ما يدفع جهودها في التنمية عقوداً إلى الوراء ويضع أعباءً مالية جديدة عليها تتحملها أجيال عدة. فيصبح الترويج لمبادرات من هذا النوع مكلفاً للدول النامية وغير مضمون النتائج خصوصاً أن طبيعة الوظائف الخضر التي تخلق، تختلف في خطورتها ومردودها وفي استدامتها كثيراً بين الدول النامية والدول المتقدمة. فالوظائف الخضر الأخطر والأقل نظافة ومردوداً واستدامة، تكون عادة من نصيب الدول النامية. * كاتبة متخصصة في الشؤون الاقتصادية