بعد الصورة الخطابية الجميلة التي قدمها مبارك في استهلاله (في المقالة السابقة)، يقوم بإعادة تموضعه، وتعديل خطابه وصورته، لكي يتأقلم مع متلقيه الآخر. هذا المتلقي ليس ذلك الثائر المنفلت، وإنما الناشط السياسي الذي يريد أن يرى أفعالاً وقرارات وتعديلات جوهرية تتعلق بالحياة السياسية المصرية. عند حديثنا عن متلقٍ آخر، فهذا لا يعني أنه متلقٍ غير الذي توجه له في الاستهلال العاطفي، ولكنها اختلاف لحظة التلقي، وتعدد العوالم، وتشظيات الشخصية. فكل شخص فيه من كل الأضداد، كما يقول ما بعد الحداثيين. هذا الجانب العقلاني من الخطاب (اللوغوس) سيأخذ المتلقي إلى عالم السياسة. الحديث في هذه الحالة لن يكون عن تجميل صورة الرئيس، وإن كانت موجودة بصورة ضمنية وتأخذ موقعاً خلفياً، ولكن عن «الوعد بتحقيق المطالب» التي يجدها مبارك «مشروعة» مع الاعتراف بالأخطاء «الواردة في أي نظام سياسي»، والتأكيد على «عدم الترشح مرة أخرى»، وتشكيل «لجان دستورية لدراسة التعديلات المطلوبة»، و«إصدار التعليمات بسرعة التحقيق في موت المتظاهرين»، واستلام «تقرير بالتعديلات»، والتوضيح حول «مواد دستورية»، والتأكيد على «انتخابات قادمة نزيهة»، وكل ذلك في «إطار دستوري»، أي بقاؤه في السلطة حتى الانتهاء من الانتخابات، مع التأكيد على تراجعه ليصبح رئيساً شرفياً، وذلك من خلال كلامه «بتفويض صلاحياته لنائب الرئيس». هذا خطاب رئاسي بامتياز. من يتحدث هنا ليس ذلك الأب الحنون الذي رأيناه في استهلال الخطاب، وإنما الرئيس بكل الصلاحيات، ذلك الشخص الذي يصدر القرارات، ويشكل اللجان، ويستلم التقارير... الإشكال هو عدم القدرة على التحقق من كل هذا في لحظة التلقي وإنما في المستقبل، فهل الناشط السياسي الخارج من ثلاثين عاماً من الفساد السياسي والاجتماعي والاقتصادي وقانون الطوارئ... سيقتنع بذلك؟ يصعب ذلك جداً، ولكن استهلال الخطاب العاطفي الذي تناولناه في المقال السابق كان يمكنه ذلك لو...(ولندع هذا الافتراض مطروحاً لبعض الوقت وسنعود إليه). يمكن القول إن هذه الخطوات والإجراءات التي اتخذها أو وعد بها ضعيفة جداً مقارنة بالسياق والأحداث التي سبقته. وبالتالي فهي متأخرة جداً، خاصة بعد أحداث موقعة الجمل. نعتقد أن هذه الخطوات في هذه الصيغة الخطابية لو قيلت قبل خطاب 1 فبراير لكان تأثيرها أكبر بكثير بشرط (وهنا نغلق افتراضنا السابق) عدم وقوع ما عرف بموقعة الجمل، فتلك الحادثة بكل سياقها وأشخاصها ووسيلتها ودوافعها تنسف أي خطاب، مهما كانت قدرته، ومهما كانت قيمة قائله. كان يمكن في اعتقادنا لخطاب 10 فبراير أن يعكس الوضع، خاصة إذا أضفنا إليه الجزء الأخير من الخطاب (حتى في ظل التناول الإعلامي الفضائي الذي لعب دوراً كبيراً في توجيه الرأي العام ضد الخطاب). هنا نشير إلى سقطة أخرى من سقطات الخطاب، وتتعلق بفقرة «التحقيقات في موت الشهداء»، فأثناء حديث مبارك عن اللجنة الدستورية والمطلوب منها، قال: «وفضلاً عن ذلك، فإنني إزاء ما فقدناه من شهداء من أبناء مصر في أحداث مأساوية حزينة (....) أصدرت تعليماتي بسرعة الانتهاء من التحقيقات حول أحداث الأسبوع الماضي»، ثم تابع بعدها مباشرة القول أنه استلم تقريراً حول التعديلات الدستورية! هذا التدرج والتتابع يثير الاستغراب والتعجب. نعتقد أن فقرة التحقيق في قتل المتظاهرين أضيفت إلى الخطاب بعد الانتهاء من صياغته النهائية، فمكانها غير مبرر. تبدو العبارة وكأنها قد حُشرت بين فقرتين مترابطتين تتعلقان بقضية دستورية منطقية. المفترض هو التتابع بين الفقرتين الدستوريتين ثم تأتي فقرة الحديث عن التحقيقات في موت المتظاهرين بعدها. بالتأكيد كان الأفضل من كل ذلك أن يتم تقديم هذه الفقرة لتتبع حديثه إلى أهالي الشهداء في استهلال خطابه، لكي يزيدهم ثقة واطمئنان في موقفه من تلك الأحداث. هذا الظهور لفقرة «التحقيقات» في هذا المكان من الخطاب تثير شكوك المحلل في جدية الحديث عنها، خاصة وأن بدايتها هي عبارة «فضلاً عن ذلك»، وهو ما يتناقض مع كلامه عن الشهداء في أول خطابه «أقول لكم قبل كل شيء»، أي تقديم دم الشهداء كقيمة متعالية عن كل شيء. * كاتب سعودي. [email protected]