هذا المقال محاولة تحليلية بسيطة تمت في إحدى محاضرات مادة تحليل النصوص، التي أدرسها لطلاب قسم اللغة الفرنسية بجامعة الملك عبدالعزيز. ثلاثة طلاب قدموا مقترحاً فقمنا بتحليله معاً، وأذكرهم بالاسم حفاظاً على جهدهم، وهم: علي سرور، محمد العيسى، أحمد بصاص، فلهم مني كل الشكر على هذا التناول الواعي. بعد عام من قيام الثورة يمكن النظر إلى الخلف لدرسها، من أكثر ما يجذب انتباه الدارس البُعد اللغوي للثورة، والمقصود خطاب من قام بالثورة، وخطاب من قامت ضده، وخطاب من تحدث عنها... في ثلاث مقالات سنحاول درس خطاب أحد الزعماء العرب، الذي ثارت عليه شعوبهم، وهو الرئيس المصري السابق حسني مبارك، وهذا ليس ترفاً معرفياً، ولكنه حاجة ضرورية لمعرفة كيف يفكر الحاكم في الشعب حين الأزمات، فالخطاب السياسي مثير جداً وفيه من الألغام الشيء الكثير، خصوصاً أنه يقع في الوسط بين حقول واختصاصات متعددة، أكبر ثورة حدثت في العالم العربي حالياً هي «المصرية»، وذلك بعد عقود من الحكم العسكري «ما عُرِف بثورة 1952»، خلال هذه الثورة الشعبية، خاطب الرئيس المصري السابق حسني مبارك المصريين مرات عدة، كان آخرها خطابه يوم الخميس10 شباط (فبراير) 2011. يمكن القول إن هذا الخطاب يقتفي أثر الخطوط العريضة التي وضعها أرسطو للخطاب الحجاجي الذي يريد الإقناع، والمقصود الوسائل الثلاثة المعروفة: الإيتوس (صورة الخطيب في الخطاب)، واللوغوس (الجانب البرهاني في الخطاب بما يحمله من أفكار قابلة للقياس والاستدلال المنطقي...) ،والباتوس (المشاعر التي يريد الخطيب إثارتها في المتلقي)، وعلى رغم بعض السقطات الخطابية التي سنشير إليها في حينها، إلا أننا نعتقد أن صياغة الخطاب عالية التقنية، لكن توقيت الإلقاء كان أهم سبب في عجزه عن أداء مهمته، وهذا عامل مهم جداً في علوم التواصل، يتجاهله البعض، أو ربما تحت ضغط السياق لا يستطيع التواؤم معه. فلحظة إلقاء الخطاب لا تقل أهمية أبداً عن محتواه، بل وقد تتجاوزه. يبدأ الخطاب بأهم وسيلة إقناعية في الظروف التي كانت تعيشها مصر، وهي تحسين صورة الرئيس، هذه الاستراتيجية تهيمن على استهلال الخطاب، نلاحظ هنا أن الخطاب لا يلقيه رئيس إلى شعب «عكس أسلوب ابن علي مثلاً»، وإنما أخ وأب يقف أمام إخوانه وأبنائه، فنسمعه يقول: «الإخوة المواطنون، الأبناء شباب مصر وشاباتها»، هذه الدعوة تختصر كل المسافات بين الأفراد، وتكسر كل الحواجز بين الطبقات، صورة لا يمكن أن نجد أفضل منها في الثقافة العربية، خصوصاً أيام الأزمات، من الطبيعي ألا يتحدث كرئيس (سيؤخر ذلك لغرض الإقناع)، فمكان ذلك هو «اللوغوس» الموجه لنوع آخر من المتلقين، لا مكان في هذا الجزء من الخطاب لأي منطق غير منطق العواطف، مخاطبة مشاعر المتلقي الثائر في هذه اللحظة اللاعقلانية (الثورة)، لذلك يؤكد لهم أن كلامه «حديث من القلب، حديث الأب لأبنائه وبناته»، هذا الأب القريب جداً لا يمكن أن يوجه نقداً أو اتهاماً لهم (كما فعل في خطاب 1 شباط (فبراير)، «أو كما فعل ابن علي وأسوأ منهم القذافي»، ولكنه سيحثهم عن أنفسهم، عن موقفه منهم في أفضل صوره قائلاً لهم: «إني أعتز بكم رمزاً لجيل مصري جديد يدعو إلى التغيير إلى الأفضل ويتمسك به ويحلم بالمستقبل ويصنعه». مهتم الخطيب جداً بتأسيس علاقة كبيرة جداً تتجاوز كل الأفكار السياسية العقلانية، هو يعلم أمام من يقف ويتحدث وعليه التأقلم مع هذا المتلقي المصري العاطفي جداً «ككل الشعوب العربية»، فيخاطبهم كأب في لحظات الانكسار، أب يبحث عن البر به وعدم عقوقه، وتلك من شيم المسلمين والعرب. يضع مبارك ذاته ومتلقيه في المكانة الإنسانية الرفيعة بعيداً من أوزار السياسة والحكم والتسلط... هو هنا أب ثمانيني منكسر مع أبنائه الأوفياء الذين سيصنعون المستقبل ويقودون المسيرة من بعده، يقوده هذا إلى مزيد من الإحساس والتأسي على أهم حدث في تلك اللحظات وهو: دم الشهداء، وهنا يصبح الدم والشهادة قيمة متعالية جداً عندما يطرحها بالقول: «أقول لكم قبل كل شيء»، هنا لا يجوز الحديث عن سياسة أو اقتصاد أو عدالة اجتماعية، هنا دماء سالت في سبيل الوطن... في الإطار ذاته وقبل الانتقال إلى أي فكرة أخرى، يقترب الخطيب من أهالي هؤلاء الشهداء، فيوجه لهم تعازيه وألمه ووجع قلبه على من مات، في محاولة لتأكيد المشاركة الأبوية في الشعور بفقدان الابن والأخ. هنا نشير إلى بعض سقطات الخطاب في هذا الجزء، الخطأ أولاً، كما نعتقد، في قوله في إحدى الفقرات: «إن دماء شهدائكم وجرحاكم...»، إذ يتضح التناقض والفصل بين صورة الأب وبين الحديث عن شهداء الشباب الذين يفترض أنهم أبناؤه. كان يفترض أن يقول: «إن دماء شهدائنا وجرحانا من أبناء الوطن»، وذلك لغرض الحفاظ على العلاقة الأبوية بينه وبينهم، وأنه ليس منفصلاً عنهم، وهذا ما استدركه مباشرة بقوله في السياق ذاته عند تأكيده بمحاسبة كل من أجرم في حق «شبابنا بأقصى درجة»، هذا الاستدراك يهدف إلى إعادة الموضعة: التموضع كشخص قريب ملتحم مع الشعب، والثانية كرئيس لديه السلطة للمحاسبة. الخطأ الثاني في توجهه لأهالي الشهداء بقوله: «الضحايا الأبرياء»، وكان ينبغي القول «الشهداء الأبرياء» للحفاظ على القيمة العالية التي ابتدر بها فقراته في هذا الموضوع... هذه السطور لم يكن الغرض الخطابي منها سوى الحصول على ثقة المتلقي قبل الدخول في الجزء العقلاني من الخطاب، وهذا ما سنحاول توضيحه في المقال المقبل إن شاء الله. * كاتب سعودي. [email protected]