لا قرينة على أن روسيا ترغب في بعث الاتحاد السوفياتي. فهي بلد لا يقيد قيد اطلاع مواطنيه على المعلومات والاعلام أو ملكيتهم ما يملكون وحرية تنقلهم وسفرهم وأعمالهم. ومزيج الحرية الاقتصادية والإكراه في الحياة العامة يثير تذمر بعض الروس. ولكن النظام لا يبدو مهتزاً أو ضعيفاً. وقوته مصدرها مبدأ متين: في مقدور الروس حل مشكلاتهم فرداً فرداً فوق ما في مستطاعهم التصدي للمؤسسات الوطنية جماعياً. وهذا ما يسميه الغربيون فساداً، ويحسبون أنه مرض يصيب النظام. والحق أن الفساد ليس طارئاً على النظام الروسي بل هو ركنه المكين وسر دوامه، والشحم الذي يتيح لعجلاته الدوران والعمل في غياب حل آخر مقبول ومقنن. ويصدق وصف معاملات النظام على العموم بالاقطاعية الجديدة. وهي المرحلة التي كانت روسيا بلغتها عشية قيام النظام السوفياتي، وحجره عليها طوال 70 عاماً. وهو اليوم في طور ذوبان جليده. والسلطة العمودية التي بناها فلايمير بوتين تضطلع من غير معوق بتحويل السلطة أو النفوذ مالاً، وبتحويل المال نفوذاً. وتتوسط الهرم الاجتماعي والسياسي مستويات كثيرة. فلا تقتصر الاقطاعية الجديدة على مستويين. ومثال شغلها لا يختلف عن مثال شغل الاقطاعية القديمة، وهو يقضي بأداء الضعيف جزية الى من هم في المرتبة العليا لقاء حماية يسبغها القوي على من هم في المرتبة الأدنى. وهذا النظام لا ينهض إلا بالحريات الاقتصادية. وهي السبب في استحالة انبعاث الاتحاد السوفياتي من رماده البارد. وروسيا البوتينية، على هذا، لن تنهار ولن تشهد تغيراً عميقاً أو جذرياً. والأرجح أن الرئيس ديمتري ميدفيديف وعى أن العوامل التي ترعى استقرار روسيا قاصرة عن أن تنفخ روح التجديد في أوصالها الواهنة. ويخطئ ميدفيديف إذا هو حسب أن النظام غير قادر على الاستقرار طويلاً. فروسيا ليست ديكتاتورية بل هي بلد حر نسبياً، ويدار من طريق الاجماع فوق ما يدار من طريق القمع، ولا تتهدده جدياً عوامل غير متوقعة. ويغفل مراقبون كثر عن أن النهج السياسي الروسي، المفرط في رئاسيته والقريب من التسلط إنما خطا خطواته الأولى في الحقبة «الديموقراطية» في أواسط تسعينات القرن العشرين، حين عمد الرئيس بوريس يلتسين الى حل البرلمان القانوني بالقوة، وأقر دستوراً جديداً نص على صلاحيات رئاسية غير مقيدة ولا مكافئ لها. وهذا الدستور حرف روسيا عن طريق تناوب الليبراليين والاشتراكيين على السلطة. وهي الطريق الطبيعية التي سدد انتهاجها خطى أوروبا الشرقية، وقادها إلى الخروج من الاستنقاع الشيوعي على نحو فاجأ المشككين الكثر. والقول الراسخ اليوم أن لا بديل لنظام بوتين إنما مصدره هذه الحقبة، ولا شأن لفلول جهاز الاستخبارات «كي جي بي» بهذا الاعتقاد، ولا يد له فيه. ولا ننسى ان نخبة ال «كي جي بي» جسدت طوال عقود الحداثة في اتحاد سوفياتي متداع وآفل. وظاهرة بوتين هي مرآة ميل القادة الروس، في التسعينات، الى تولي موظف تافه منصب الرئاسة، وتقديمه على أناس يشكون عيوباً كثيرة من غير شك لكنهم مجربون من أمثال يفغيني بريماكوف ويوري لوجكوف. والاثنان حظيا يومها بشعبية لا تنكر. وأقدم البيروقراطيون القاصرون والضعيفو الكفاءة على توظيف أشخاص أقل منهم كفاءة، وولوهم الأعمال والوظائف الحيوية في وزاراتهم ولجانهم. وطمأنهم أن هؤلاء عاجزون عن منافستهم على وظائفهم وكراسيهم. ولا تشكو الحوكمة الروسية اليوم احتكار «الاوليغارشية» السلطة، على ما يزعم، وهي تشكو بالأحرى ديكتاتورية الفاسدين وضعف كفاءتهم. والأمثلة على هذه الحال كثيرة. ومنها سيرغاي إيفانونف. وإيفانوف هو جاسوس محترف سابق، أرسل الى لندن في 1981. وبعد سنوات لم يفلح فيها، انتدب الى فنلندا، وهذا ليس دليلاً على إحرازه نجاحاً في عمله السابق، ثم إلى كينيا حيث تولى تخريب شبكة الاستخبارات الروسية في شرق أفريقيا. وكانت مكافأته على هذه السيرة المهنية تعيينه نائب رئيس الوزراء في حكومة بوتين. وبوريس غريزلوف، وكان وزير الداخلية في 2001 قبل أن ينتخب في 2003 رئيساً للغرفة الدنيا في الدوما، وهو مهندس ذاع صيته حين اكتشف مصفاة لتنقية الماء الموبوء. ولم يبطل شهرته تقرير أعدّته الأكاديمية الروسية أثبت أن المصفاة المزعومة لا تؤثر أي أثر في تنقية الماء. وأما وزير الدفاع، أناتولي سيرديوكوف، فلا يكاد يميز المدمرة من القاطرة. هؤلاء النافذون يتسترون غالباً على جهلهم بواسطة شهادات دكتوراه أو كراسي أستاذية جامعية يحصلونها في أثناء تسنّمهم مناصبهم. ويبلغ عدد أساتذة الجامعة بين ال450 نائباً في الدوما، 71 أستاذاً (بينما ليس ثمة أستاذ واحد بين أعضاء مجلس النواب الاميركي في 2007-2009 ويقتصر عددهم في البوندستاغ الألماني، في 2009، على 3). وفي الاثناء، تلاحظ علامات تردي المهارة والاختصاص المهنيين في المجتمع الروسي. فالطلاب الجامعيون الروس الذين ينوون دراسة الهندسة وامتهانها لا يتعدون ال14 في المئة، نظير 29 في المئة من الطلاب الألمان، و42 في المئة من الطلاب الصينيين. وتغلب العلاقات والوساطة الشخصية والعائلية على المسار المهني في روسيا غلبة تامة. فلا يبقى للكفاءات والاختصاص دور يعتد به. فعلى سبيل المثل، رئس ألكساي ميللر على غازبروم وهو جاهل بمسائل الطاقة جهلاً تاماً. وفي ولايته انخفض انتاج الشركة، وهي الاولى في روسيا، من 523,2 بليون متر مكعب في عام 2000 إلى 461,5 بليون في 2009. وحين ولي سيرغاي كيريينكو، وهو رئيس وزراء سابق في عهد يلتسين، رئاسة روناتوم (الوكالة الاتحادية للطاقة الذرية)، لم تكن له خبرة بمادة الوكالة. ومنذ تعيينه، في 2005، شغل مفاعل واحد من ال11 مفاعلاً الموعودة. ويقدر غيورغي ساتاروف، أحد خبراء الفساد البارزين ومستشار يلتسين سابقاً، العمولات الخفية في الاقتصاد الروسي في عهد بوتين بنحو 400 بليون دولار. وهي كانت تبلغ نحو 33 بليوناً حين خلف بوتين يلتسين. ويبلغ متوسط سن عقيد (كولونيل) في الشرطة الروسية 42 سنة، نظير 57 في أواخر العهد السوفياتي. فالنفوذ «يحرق» المراحل ويختصرها. والمال يشتري النفوذ. والقرينة على صدق هذا الزعم هو أن 49 من أصحاب ملايين الدولارات، أو مليونيراً، هم نواب في مجلس النواب، و6 منهم من أصحاب البلايين. وفي المجلس الاتحادي (الشيوخ) 28 مليونيراً و5 بليونيرية. وعليه، فسيلفيو برلسكوني هو البليونير الوحيد الذي انتخب الى هيئة تشريعية في واحد من بلدان الاتحاد الاوروبي ال15 قبل التوسيع. ولما كان الكرملين مرجع التقرير الوحيد في النواب واختيارهم، لم يعص الفهم كيف انتخب النواب الاثرياء: فهم سددوا إلى من هو (هم) فوق الضريبة المقدرة لقاء إسباغ الانعام عليهم، على ما يقتضي التبادل على النمط الإقطاعي. وإلى اليوم، لم يُرَ وزير مدين ولا حاكمُ محافظة أشهر إفلاسه. ويلاحظ نازع الأعمال المجزية إلى اكتساب صفة عائلية ملازمة منذ عام 2000، واعتلاء فلاديمير بوتين المرتبة الأولى. فأفضل عقارات في موسكو تملكها أغنى امرأة أعمال روسية، إيلينا باتورينا، زوجة عمدة المدينة منذ 1991. ويد أورال رحيموف، هي العليا في شؤون النفط في جمهورية باخكورتوستان، وأورال هو ابن الرئيس مرتضى رحيموف. وأناتولي سرديوكوف كان وزير الدفاع في حكومة عمّه (والد زوجته) فيكتور زوبكوف. ووزيرة التنمية الاجتماعية والصحة تاتيانا غوليكوفا هي زوجة وزير الصناعة، فيكتور خريستينكو. وعلى رأس الجمهوريات «الوطنية» سلالات حاكمة وراثية: فرمزان (رمضان) قديروف ورث والده أحمد، وهو في ال29، في 2004. ومنذ أوائل 2010، يتولى ماغوميدسلام ماغوميدوف حكم داغستان الذي خلا بوفاة ماغوميدعلي، والده. ويتبع التشريع احتياجات الحظوة ومعاييرها. فيسنّ القانون وفق هذه المعايير. وتطعن الشرطة أو النيابة العامة في نزاهة رجل الاعمال الذي يراد تخليه عن شركته لتؤول إلى محظي معروف. وغالباً ما تستعيد شركة دين صاحبها العملَ وتستأنفه حين يخلفه المحظي المتوقع. ولم يعاقب الى اليوم مدع عام أو مراقب مالي واحد صادف أن تولى مراقبة رجل أعمال مدان في أثناء الاعوام التي ارتكبت الجناية المالية فيها. وهذا قرينة على افتعال الادانة وتعمّدها. ودولة بوتين هي «دولة خاصة»، وليست السياسة فيها إلا ضرباً من الاعمال وصنفاً من أصنافها. وفي ضوء وصف احوال روسيا البوتينية ينهض النظام على قاعدة اجتماعية عريضة تنتفع منه، وتؤيده لقاء انتفاعها. ويرعى النظام توسيع قاعدته ومصادرها. وأول هذه المصادر الجامعات المتكاثرة. فجامعة لوموسوف الرسمية في موسكو كانت تعد 17 كلية في 1989، وتعد اليوم 39 كلية. وتمد الكليات الجديدة، والجامعات في الولايات، النظام بموظفيه والأعوان والأنصار الذين يحتاجهم بواسطة عمداء ورؤساء ولاؤهم مضمون. والطلاب الوافدون من الأرياف الى المدن تستقبلهم الشركات التي تملكها الدولة قبل أن تختار منهم الأجهزة والادارات أشدهم ولاءً واحتياجاً للرعاية. وفي الخدمة اليوم، 200 ألف ضابط، و101 مليون جندي في إدارات وزارة الداخلية، و300 ألف موظف في جهاز الاستخبارات، ويعمل 200 ألف في مكاتب النواب العامين. ويبلغ مجموع من يعملون في الادارات العمودية 3,4 مليون (12 في المئة من القوى العاملة) من غير أن يخلّف هذا انخفاضاً في عدد الجنح والجرائم. والحصول على وظيفة في أحد الأسلاك هذه يرتب على الموظف شراءها وتسديد ثمنها، على أن يتقاضى الموظف عوائد وظيفته من الذين يغضي عنهم أو يخدمهم، على نحو أو آخر. بينما يرث أبناء كبار النافذين آباءهم. ويحول النافذون البوتينيون دون انخراط المعارضين في أحزاب سياسية جديدة. ومنذ عام 2000، لم يرخص لحزب جديد واحد بالعمل. والهيئات التشريعية والتمثيلية المحلية كلها في قبضة حزب بوتين «روسيا الموحدة». ورداً على الحجر العام لا يجد الشباب مناصاً من الهجرة. ويبلغ متوسط عدد المهاجرين المؤهلين في السنة 40 إلى 50 ألفاً. ويحل نحو 3 ملايين مواطن روسي الاتحاد الاوروبي. وفي هذه الحال، لا يتوقع أن تنهض معارضة عريضة ومتماسكة في وجه النظام العامودي. * أستاذ في «موسكو سكول إيكونوميكس» في جامعة لوموتسوف ورئيس تحرير مجلة «بوفودنايل ميسل» الشهرية، عن «ناشينل إنتيريست» الاميركية، 2/2011، اعداد منال نحاس.