في المرة الأولى، بدا المشهد مهيباً. وصل رئيس أميركا الشاب باراك أوباما على متن الطائرة الرئاسية، متحدّياً ظروفاً مناخية عاتية، إلى الدنمارك. شارك أوباما في مفاوضات اللحظة الأخيرة في مؤتمر «كوب 15» (كوبنهاغن - 2009) عن المناخ، فتمطت اللحظة لتصبح مفاوضات ماراثونية تواصلت عبر الليل وفجره. وتمخض «كوب 15» عن «فأر» فعلياً. لم يزد الإنجاز عن بيان استطاع حفظ ماء وجه المؤتمر، لكنه لم يصل إلى مستوى الاتفاقية المُلزمة. ورُحّلت مشكلة الاحتباس الحراري إلى مؤتمر يعقد، كالعادة، في اختتام السنة التالية. شهد منتجع «كانكون» في المكسيك، تكرار المسرحية عينها. تغيّر الممثلون. غاب أوباما. حضر رؤساء آخرون. بقي الإخفاق في التوصّل إلى اتفاقية مُلزِمة تجبر الدول على خفض انبعاث غازات التلوّث (ميثان، ثاني أوكسيد الكربون...)، التي ما فتئت تتراكم في الغلاف الجوي منذ الثورة الصناعية في الغرب. يهدف خفض انبعاث الغازات إلى إبطاء وتيرة الارتفاع في حرارة الأرض الذي يترافق حاضراً مع تراكم تلك الغازات. لم يحدث شيء مُلزِم في «كانكون 2010»، فبقي «بروتوكول كيوتو» الذي أُبرِم في 1997 في اليابان، الاتفاقية المُلزِمة الوحيدة في هذا الشأن. لم يمنع هذا الإخفاق الفاضح المجتمعين في «كانكون» من ترداد كلمات إيجابية عن تقدّم في بعض المناحي المتّصلة بالتكيف مع آثار الارتفاع في حرارة الأرض. حاولت هذه الكلمات تغليف الفشل الذي رافقه، كرّة أخرى، تأجيل الاتفاقية الملزمة إلى مؤتمر السنة المقبلة. وجاء عام 2011. وقبل اختتامه، تكرّر المشهد البيئي مرّة أخرى. تمطّت المفاوضات الماراثونية، مرّة أخرى، لتتواصل ساعات وساعات. لم يحضر أوباما. تقلّص طابور الرؤساء الذين جذبهم «كوب 15»، ليصبح فرقة صغيرة في «كوب 17»، وهي أقل عدداً مما كانته في منتجع «كانكون» المكسيكي. وتكرّرت النقاشات عينها، من دون طائل. وكالعادة، ظهر اتفاق ينقذ ماء المؤتمر، لكن من دون اتفاقية مُلزمة. وجرى ترحيل المشكلة إلى العام المقبل، بل ربما إلى ما بعده! لا شيء معي إلا كلمات بالاقتباس من الشاعر نزار قباني، مال كثير من المحللين إلى القول إن ما تمخض عنه جبل «كوب 17» الذي استضافته مدينة دربان (جنوب أفريقيا)، لم يكن سوى فأر يصح وصفه بكلمات قباني «لا شيء معي إلا كلمات». تتضمن تلك الكلمات شعار المؤتمر «لنحمِ المستقبل الآن». وبكلمة «تاريخية» شهيرة، وصفت كريستيانا فيجرز المديرة التنفيذية ل «الاتفاقية الإطارية لتغير المناخ»، نتائج مؤتمر «دربان». لكن نتائج المؤتمر تتلخص في أربعة بنود رئيسة، هي أن يستمر العمل ب «بروتوكول كيوتو» لمرحلة ثانية تبدأ في 2013، وإنشاء لجنة للتكيف مع التغيرات المناخية تعمل على إنشاء «مركز تكنولوجيا المناخ»، وإعادة إطلاق «صندوق المناخ الأخضر» من دون إعطائه أموالاً ولا إيضاح آلية التمويل، وترحيل المفاوضات في اتفاقية مُلزِمة عن غازات التلوث لتبدأ في 2012 وتستمر حتى 2015 حين يؤمل بأن تظهر اتفاقية تدخل حيّز التنفيذ في 2020! الغرب يرفض تحمّل المسؤولية عقّب ممثل الهند على نتائج «كوب 17» بالتشديد على أن بلاده لم تغيّر موقفها، بل إنها أبدت مرونة لأن الآخرين أظهروا مرونة أيضاً! للإيضاح، تتمسك الدول النامية، خصوصاً الهند والصين، بأن «بروتوكول كيوتو» ألزم الدول الصناعية الغربية بأن تخفض انبعاث غازات التلوث، وهو ترجمة للمسؤولية التاريخية للغرب عن المناخ. لقد اندلعت الثورة الصناعية في الغرب، واستخدمت أنواع الوقود الأحفوري (فحم حجري ونفط) لقرون، قبل أن تدخل الدول النامية إلى حلبة الصناعة. لكن دول الغرب سرعان ما راوغت للتهرب من «كيوتو». سحبت أميركا توقيعها عنه، بمجرد وصول جورج بوش الابن إلى الرئاسة، مع العلم أن جورج بوش الأب رفض أيضاً وضع توقيعه على اتفاقية «ريو دي جينيرو» التي تمخّضت عنها «قمة الأرض». وأعلنت غير دولة (روسياوكندا مثلاً) أنها لم تستطع التوصل لتخفيض انبعاث غازات الصناعة إلى المستوى الذي طلبه «كيوتو». ولجأت دول كثيرة إلى طرق للالتفاف عن «كيوتو». وزاد في الطين بلّة، أن كندا انسحبت من هذه الاتفاقية المُلزمة، عقب اختتام «كوب 17»! وفي مسار المفاوضات، شدّدت الدول الغربية على أن دولاً مثل الصين والهند، باتت تنفث غازات مُلوّثة بمثل ما يفعل الغرب وأكثر، ما يعني ضرورة إلزامها أيضاً. وردت هاتان الدولتان بأنهما دخلتا متأخرتين حلبة الصناعة، وأن الانتقال إلى صناعة خضراء، أمر باهظ التكاليف، ما يهدد نموّهما. حتى قبل «كوب 15»، كان جلياً أن «بروتوكول كيوتو» دخل غيبوبة موت غير معلن! صندوق أخضر و... مفلس في لقاء مع «الحياة»، أكّد العالِم عمر العريني أحد أعضاء اللجنة المؤسسة ل «صندوق المناخ الأخضر»، أن لا صحة لما تداولته وسائل الإعلام عن رصد مبلغ مئة بليون دولار للصندوق. وأوضح أن الحقيقة هي أن لا مال في هذا الصندوق! ليس العريني بغريب عن صناديق البيئة وتمويلها، إذ ساهم في تأسيس «صندوق الأوزون» وترأّسه بين عامي 1999 و2003. وأشار إلى أن فكرة الصندوق ظهرت في «كوب 15». واتّخذ قرار إنشائه في «كانكون» 2010. وجرى إنشاء لجنة موقتة لتصميم الصندوق، عقدت آخر اجتماعاتها في «كيب تاون» في جنوب أفريقيا في تشرين الأول (أكتوبر) 2011، قبل أن يُكرّسه مؤتمر «دربان». أوضح العريني أنه ساد ما يشبه التوافق في اجتماع «كيب تاون» عن وثيقة تأسيس الصندوق، لكن الاجتماع لم يتطرق إلى التمويل مكتفياً بالإشارة إلى أن الأموال تأتي من الدول المتقدّمة أو مصادر أخرى! وأضاف: «لقد حاولت إيجاد بعض الشبه مع «صندوق الأوزون» الذي مثّل تجربة ناجحة بأثر من تحديد التزامات الأطراف المساهمة فيه كلها. ولكن، حتى آخر لحظة في «دربان» لم نستطع أن نفعل شيئاً. ظهرت رغبة دول متقدمة لتحديد مسألة التمويل، لكنها لم تستطع أن تبوح بهذه الرغبة علانية في الاجتماعات. شخصياً، حاولت مثلاً أن يكون هناك تمويل من الدول الصناعية خلال الثلاث سنوات الأولى من عمل الصندوق لنتمكن من معرفة المشاريع التي تحتاج للتمويل ولم أتمكن من ذلك. في «دربان» حاولنا وضع بند يطلب من مجلس إدارة الصندوق، أن يجري دراسة حول حاجات الصندوق المالية في الفترة الأولى من عمله، فلم يحدث توافق، حتى من دون أن تلزم الفقرة الدول دفع مبالغ محددة. لا تريد الدول الصناعية، ومنها أميركا، أن يعمل هذا الصندوق تحت إمرة «مؤتمر الأطراف لاتفاقية تغيّر المناخ» الذي ترعاه الأممالمتحدة. يريدون أن يصبح الصندوق بعيداً من مظلة الاتفاقية. وقد قالوا هذا صراحة. أعتقد أنهم يريدونه مثل الصندوق المسمى «غلوبل فاند»Global Fund المخصّص لمكافحة الملاريا والسلّ والإيدز. لقد أُنشئ «غلوبال فاند» في جنيف. ويخضع للقانون السويسري. ويملك مصادر تمويل متنوّعة تشمل دولاً وأفراداً ومؤسسات. ولقد قيل في الاجتماعات الرسمية إن العالم الغربي يمر بأزمة مستعصية، وإن بعض الدول مهددة بالإفلاس، لذا لا يريدون أن يرتبطوا من الآن بإعطاء كمية محددة من أموال الموازنات العامة لتمويل هذا الصندوق أو صناديق أخرى. وتكرر هذا الكلام كثيراً. أذكر أنهم قالوا في كوبنهاغن إنهم سيدفعون 30 بليون دولار في 2010 و2011 و2012، وحتى الآن لم تجر تغطية هذه المبالغ! ثم قيل إنهم سيدفعون مئة بليون دولار حتى 2020. وسرعان ما تنصل بعضهم في الاجتماعات الرسمية في دربان، مشيراً إلى أن هذه الأموال لن تأتي من موازنات الدول، بل إنها ربما جاءت من مصادر أخرى. وقال أحد أعضاء الوفد الأميركي صراحة، إن الذين اعتقدوا أن المئة بليون دولار ستدخل إلى صندوق المناخ الأخضر... واهمون.