في أوقات بغدادية صعبة، كانت المدينة خلالها مثخنة بالجراح التي سبّبتها قنابل «الحلفاء» أثناء «عاصفة الصحراء»، كان زياد الرحباني يترك في بيروت لمساته الأخيرة على عمل سيشكل الخطوة الثانية على طريق مغادرة السيدة فيروز شرفتها الرومانسية بصفتها «جارة القمر»، لتبدو امرأة من عصرنا المأزوم، بيومياته النابضة يأساً وأملاً وحبّاً وجزعاً. فبعد «معرفتي فيك» التي صاغها زياد، نصوصاً وموسيقى، جاءت أسطوانة «كيفك انت»، لا لتؤكد المفارقة في تجربة فيروز وحسب، بل لتقدم صاحب موسيقى «أبو علي» بصفته صانع ألحان ينطبق عليه عنوان أحد إصداراته: «غير شكل». في أيام المحنة تلك، كان فتى وسيم، يعمل في محل لبيع الأشرطة الموسيقية في حي المنصور الراقي (ولم يعد كذلك الآن مع تحول بغداد قرية كبيرة)، يحتفظ لي بالجميل النادر من جديد النغم الموسيقي وهو المتمع بالذائقة السلسلة ورهافة الإحساس. دخلت عليه ذات يوم، فلوّح إلي سريعاً بشريط مع ابتسامة عريضة، وكأنه يبشرني بكنز اكتشفه، وقبل أن أصل إليه قال: «تحفة من فيروز». وهي كذلك فعلاً. تحفة من طراز روحي خاص، وبالذات لمن تهدمت في الحرب أرواحهم، فضلاً عن أجسادهم، فكانت أسطوانة «كيفك انت» زاداً لمن جفت ينابيع حياته، أو كادت، إذ علق بين مطرقة «عاصفة الصحراء» وسندان صدّام حسين الوحشي. استمعت إلى الشريط الفيروزي مرات ومرات، الى حدّ أنه تشكّل معي روحياً بقوة تأثيره النغمي والتجديد اللافت في أجواء الأغاني أداءً ونصّاً. ومع أن ثلاثاً من أغاني الأسطوانة كانت فيروز قدّمتها في حفلة في باريس، خريف عام 1988، وهي «فيكن تنسو» و «كيفك انت» و «أغنية الوداع»، إلا أن تلك الأغاني، حين سجّلت ضمن أسطوانة تأخر صدورها حتى عام 1991، بدت من ضمن نسيج الأغاني الأخرى: «يا ليلي ليلي ليلي»، «ضيعانو (موسيقى)»، «في شي عم بصير»، «عندي ثقة فيك»، و «مش قصة هاي». أذكر كم سحرتني أجواء الأغاني، وتحديداً في تقديم عاطفة رقيقة مع عناصر تجديدية، نصّاً ولحناً. بدت فيروز شابة من عصرنا، معها ترتفع اليوميات الصغيرة للمرأة العاشقة إلى مرتبة الشعر. نسخت من ألبوم «كيفك انت» عشرات الشرائط، ورحت أوزعه على الأصدقاء، ووجدتني أختار منهم أصحاب الأرواح الرقيقة التي تألمت كثيراً من أهوال تهزّ صخر الاحتمال. كأنني أبلسم بالشريط قلوبهم. في «كيفك انتَ» امرأة عاشت قصة حب مع رجل، ثم افترقا، ثم التقيا مجدداً، فتسأله عن حياته و «قال عم بيقولوا صار عندك ولاد؟»، والأسئلة مضمّخة بالعتب والحنين وقبول خسارة الحبيب. خاض زياد الرحباني مغامرة إضافية مع هذه الأغنية، إذ جعل من توليفة بروفات الأغنية، خلال تسجيلها، قطعة غنائية جديدة كلياً تفيض حيويةً وطرافة، وتتصل بجوهر العمل الغنائي عند صاحب مسرحية «شي فاشل». فهو موسيقي قبل كل شيء، الأمر الذي يثبته بقوة في أغنية أخرى في الألبوم: «يا ليلي ليلي»... لا كلمات هنا بصوت فيروز سوى «ليلي»، لكن الأغنية تبدو متكاملة. أذكر كم أدهشني ذلك حينها، خصوصاً مع فيروز. ويوميات المرأة العاشقة المعاصرة، يصوغها صاحب مسرحية «فيلم أميركي طويل»، بروحه المتهكمة، نصّاً بصوت فيروز. ثمة ذروة في أغنية «مش قصّة هاي». هنا هي المرأة المتبرمة من سكون وملل أصابا حياتها، حتى في الحب. فتبدو غير مكترثة إن وصلها حبيبها أم انقطع عنها. وثمة وجدان صاف في «عندي ثقة فيك» التي تبدأ بتدفق لحني، يتحول إيقاعاً هادئاً تلونه ضربات البيانو، فيما الانتقالات من مقطع إلى آخر تتولاها الآلات الهوائية في جملة موسيقية تشبه شهقة امرأة بها وله... «ما كل الجمل يعني عم تنتهي فيك». لكل هذه الاستثناءات التعبيرية، نصّاً ولحناً زيادياً وأداء فيروزياً، تبدو أسطوانة «كيفك أنت» محطة لا يسع المرء إلا أن يستعيدها، بعد عشرين عاماً، ليس فقط في المسيرة الفنية المشتركة لفيروز وزياد الرحباني، بل أيضاً لمرحلة كانت تُصاغ ملامحها، وهي في حالة الكثير من العراقيين ذكريات دامية. أنا ممن حاولوا، آنذاك، التداوي بصوت فيروز جديدة، فاجأتني بعصريتها ولم تكفّ عن لمس روحي... ولم أكن وحدي.