لم تخلد بيروت إلى النوم أمس. اشتعل ليلها بالأضواء والزينة وألعاب اللايزر، وضجت بالموسيقى وجنوح الناس وجنونهم، احتفالاً باستقبال عام جديد. كل أشكال الفرح عبّر عنها اللبنانيون في شوارع المدينة وصالاتها المبهرة، آملين بأن يكون العام 2012 أرحب صدراً، وأوسع روحاً من عام ضاقوا فيه بأزمات مالية وضغوط معيشية... لكن من يحتفل مع الناس ليلة رأس السنة في بيروت، يتعجب لحال ناسها وتناقضاتهم: كيف يمكن مواطناً أثقلته الزيادات على السلع الأساسية، أن يمارس بذخاً في ليلة واحدة، يساوي راتبه؟ لا مبالغة في هذا التقدير. إذ بلغت أدنى مستويات «البذخ» ليلة رأس السنة، معدل مئتي دولار للشخص الواحد، ولذا ما افترضنا أن اللبناني قرر إحياء رأس السنة برفقة شريكته، فإن كلفة السهرة التهمت قسطاً كبيراً من راتبه الشهري. وحدهم المغنون وأصحاب المنتجعات السياحية والفنادق، جنوا أموالاً في هذه المناسبة، فيما استفاق الآخرون على عجز مالي اليوم، يُلزِمهم التقشف... حتى نهاية الشهر. وتشير المؤشرات السياحية إلى أن ليلة راس السنة في لبنان، كانت الأفضل بين السنوات الست الماضية، إذ استقبلت المدينة سياحاً كثراً، كما احتفل معظم اللبنانيين بوداع العام الماضي في بلادهم، خلافاً للسنوات الماضية التي سافر فيها لبنانيون كثر إلى الخارج. وسجلت المنتجعات السياحية والمرابع الليلية إقبالاً كثيفاً من الساهرين الذين دفع بعضهم 1100 دولار ثمن السهرة للشخص الواحد، كما سجلت ليلة احتفالية أمس إقبالاً على حجز المقاعد الأمامية بغض النظر عن أسعارها الباهظة، وبيعت بعض التذاكر في السوق السوداء بمبلغ وصل إلى 1500 دولار. ولا يهتم بعض اللبنانيين لكلفة السهرة «بما أنها مناسبة بات الاحتفاء بها تقليداً سنوياً شبه ملزم»، يقول آلان عاصي الذي حجز مقعدين له ولزوجته في كازينو لبنان قبل عشرين يوماً من السهرة، مقابل ألف دولار للشخصين. فهو لا يأبه للمبلغ المتوجب عليه، بقدر اهتمامه «بسهرة لائقة، واحتفال مميز على قدر الآمال من السنة الجديدة». وينسحب هذا التوجه على كثيرين يقتطعون من رواتبهم الشهرية لإحياء ليلة رأس السنة في المنتجعات السياحية. المفارقة أن معظم الساهرين هم المعنيون مباشرة بالنزاع اللبناني بين الهيئات الاقتصادية والاتحاد العمالي العام على تصحيح أجور العاملين الذي بدأ قبل شهرين، وأُقفل من غير الوصول إلى تسوية. هؤلاء «المحرومون» من أدنى حقوق العيش الكريم، وسط ارتفاع الأسعار الجنوني الذي وصل إلى 20 في المئة على معظم السلع الأساسية، وإلى 70 في المئة على سلع أساسية أخرى، لم يعفوا أنفسهم من إحياء سهرة باتت تقليداً لبنانياً! غير أن الأمر لا ينسحب على الجميع، إذ شهدت بيروت أمس أقصى وجوه الفوارق الطبقية، حيث توزع الساهرون بين مواقع السهر المصنفة «درجة أولى»، والمرابع الليلية، والمطاعم والمنتجعات المصنفة «درجة ثانية» و»ثالثة». لكن الكلفة لم تنخفض إلى أدنى من 75 دولاراً للشخص الواحد، وهي أسعار صادقت عليها وزارة السياحة. شوارع وساحات ووسط العرف اللبناني بأن استقبال العام الجديد «حدث لا يمكن أن يمر مرور الكرام»، يتحايل اللبنانيون غير القادرين على دفع تكاليف السهر على الأزمات المالية، فيختارون الساحات العامة لإطلاق صيحات الترحيب بالعام في الهواء الطلق. مي عيتاني (22 سنة) من الذين اعتادوا على استقبال العام في وسط بيروت «حيث ألعاب اللايزر، والموسيقى الصاخبة، والمحتفلون الذين يجمعهم الفرح والأمنيات». هذا المكان «الخاص» للاحتفال، «يخرج الساهرين من برنامج نمطي منظم يفرضه مديرو الصالات والمطاعم، إذ يبتدع الساهرون هنا إيقاعات فرح مختلفة، ويعبر كل منهم عن فرحه وأمنياته بأسلوبه الخاص». ويعتبر الاحتفال في الساحات العامة وشوارع المدن تقليداً غربياً بامتياز، يوفر لأصحاب الدخل المحدود فرصة للاحتفال بأقل ثمن، أو مجاناً، وغالباً ما يستقطب فئة الشباب. وإذا كان وسط بيروت قد احتكر هذا الوجه من الاحتفال طوال السنوات الماضية، فإن شارع الحمراء نشط على هذا الصعيد، إذ لبّى شباب لبنانيون أمس دعوة «بيت الصنائع» في منطقة الحمراء للسهر حيث أقيم عرض موسيقى حية ومعزوفات قدّمها الساهرون، كما توافد آخرون لاستقبال العام الجديد في الشارع الذي ازدان بالزينة والرواد، وتُوّج بالمفرقعات والألعاب النارية، وضج بالموسيقى الاحتفائية. وشدت احتفالات الشارع انتباه الساهرين الذين تنقلوا بين وسط بيروت وشارع الحمراء «لاختبار وجهي الاحتفال بالعام الجديد»، كما يقول محمود حمية (27 سنة)، غير أن الاحتفال بالهواء الطلق «لم يختلف كثيراً إلا بروح الساهرين، وطريقة تعبيرهم عن البهجة باستقبال العام 2012». وبين المحتفين من التزم المنزل واستقبل العام في جو عائلي حميم، وشاهد المدينة بعيون وسائل الإعلام والشاشات الفضائية وبرامج المنوعات التلفزيونية، وهم فئة كبيرة من اللبنانيين الذين يرون في الحدث السنوي «مناسبة للمّ الشمل والسهر مع العائلة». استقبلت بيروت، بمختلف أطيافها العام الجديد، وازدانت ليلة أمس بزينة الأعياد وتناقضات أبنائها... كما احتفلت بطبقية اجتماعية تظهر فوارقها جلية في مناسبات مشابهة.