غريب ذلك «التوارد في الأفكار» عند المحطات التلفزيونية إذ أنّ كل الشاشات اللبنانية تقريباً تعرض الأجواء نفسها في الفترة نفسها! هل الأمر كما يُقال باللهجة اللبنانية: «القلوب عند بعضها»، أم هي العيون والآذان حاضرة دوماً لترصد ما يحضّره الآخرون ثمّ تسعى إلى منافسته؟ هذه الظاهرة التي تمتد طيلة السنة بمختلف أشهرها تتجلّى واضحةً ليلة عيد الميلاد وفي سهرة رأس السنة. في بقية الأشهر يمكن ملاحظة كيف تظهر برامج متشابهة تُعرَض في الفترة ذاتها، مثل برنامج «بعدنا مع رابعة» على شاشة «الجديد» الذي ينافِس «حديث البلد» على «أم تي في» ويتم عرضه في اليوم نفسه مع اختلاف بسيط في التوقيت، ينضم إليهما «بدون زعل» على شاشة «المستقبل» و «أحلى جلسة» على «أل بي سي» اللذان يُعرضان مساء الثلثاء، وهذه البرامج الأربعة تعتمد على استقبال أكثر من ضيف ومحاولة كشف الوجه الآخر له في أجواء لطيفة. يمكن كذلك ملاحظة التنافس في البرامج الكوميدية التي كانت بمعدّل برنامج واحد في الأسبوع على كل محطة، وإذا بالمحطات توسّع دائرة هذا النوع من البرامج، فتبدأ من اثنين على الأقل لتصل إلى أربعة على شاشة «أل بي سي» مثلاً. أمّا إذا أردنا ملاحظة «توارد الأفكار» ليلة عيد الميلاد فهنا حدّث ولا حرج، بخاصة بعدما صارت هذه الليلة خاضعة لأعرافٍ وأصولٍ، مَن يخرج عنها قد يشعر أنّه خارج المنافسة. الشكل العام للحلقات الخاصّة بالعيد يجب أن يكون مصبوغاً بطابع المحبة والعطاء والفرح، أما فعلياً فيجب أن يجبر المُشاهِد على القول: «ما أحسن هذه المحطة!» وهنا يمكن كل شخصٍ أن يتذكّر ما شاهده في تلك الليلة كي يلاحظ سرعة الكاميرا في رصد الدموع في العيون، ودقّة المونتاج لإبطاء كل حركة تأثرٍ أو انفعال، وفعالية الميكساج لإضافة موسيقى حزينة تضفي مزيداً من الأجواء المؤثرة على المشهد! في زحمة كل هذه التفاصيل يبقى إحساس «الضيوف» الفقراء غير أساسي أمام الرغبة في جذب المشاهدين، بأي ثمنٍ، حتّى ولو كان على حساب كرامة هؤلاء الأشخاص وبخاصّة الأولاد الذين سيعودون في اليوم التالي إلى حياتهم العادية حيث سيتواجهون مع نظرة الشفقة من أصدقائهم، فيتمنّون ألف مرّة لو إنّهم لم يظهروا على الشاشة. بعد هذه الليلة تنتهي موجة «المحبة العارمة» طيلة عام كامل كي تعود في السنة المقبلة بمحتاجين جدد، وكأنّ المحتاجين لا ينقصهم شيء إلا في ليلة الميلاد! وأخيراً نصل إلى منافسة إحياء عيد رأس السنة، مع ما تتخلله من «توارد في الأفكار». فإن كانت ليلة الميلاد تلبس طابع المحبة والحنان، فإنّ ليلة رأس السنة يجب أن ترتدي بزّة الكرم الرسمية كي تسمح للساهرين في بيوتهم بالربح وافتتاح السنة الجديدة بفرح الفوز، من دون أن ننسى أجواء الغناء والحفلات الفنية «المسجّلة» أو «المباشرة» التي تجعل المشاهدين يشعرون بأنّهم لم يفوّتوا شيئاً ببقائهم في المنزل. أمّا المنافسة الأشرس فهي باستقدام «علماء الفلك» أو «أصحاب الرؤى» أو «قارئي الغيب والمستقبل» أو «أصحاب التوقّعات» أو «كاشفي الحوادث» أو «راصدي الأبراج»... وما إلى هنالك من تسميات ممكنة أو إعلانات مبهرة تُختصَر بعبارة: «هذا ما قيل... هذا ما حصل»!! هذه الخطوة صارت العلامة الفارقة عند كل محطة، فإذا بها تشدد في إعلاناتها قبل أكثر من أسبوع من هذه الليلة على اسم صاحب التوقّعات أكثر من أسماء النجوم الذين سيحيون السهرة! وإن كانت محطة «أل بي سي» خسرت ميشال حايك الذي ظهر بنظرته الثاقبة المعهودة على شاشة «أم تي في»، فهي لم تقف مكتوفة الأيدي بل دعت اثنتين بدل الواحد، فظهرت ماغي فرح وليلى عبد اللطيف فخورتين بالتوقعات الماضية التي حصلت في الوقت الذي كان الجميع يستبعد وقوعها! محطة «أو تي في» اعتمدت على مايك فغالي وعلى الهالة التي يفرضها حول نفسه لإعطاء مزيد من الثقة بكل ما يقول، فدخلت المنافسة بالسلاح ذاته. أمّا المشترَك في كل ذلك فهي تلك الإثارة والتشويق و «الحرقصة» قبل أن ينطق كل واحدٍ أو واحدة بالتوقعات المصيرية التي ستحدد مسار السنة الجديدة ومصيرها مع مصير اللبنانيين والشعوب العربية والغربية! منذ اللحظة الأولى من السهرة كانت الدعوات لا تتوقّف لانتظار «التوقّعات»، ثمّ لا ينفّك كل مقدّم يذكّرنا بأنّ فلاناً سيتكلّم بعد قليل، وكأنّ محور السهرة يجب أن يدور حول تلك التوقّعات. أمّا ما يزيد من غرابة الأمر ويكشف مدى تأثّر الناس بما يقوله هؤلاء «العلماء» فهو أنّ تلك التوقّعات تمّ نشرها عبر صفحات الإنترنت بعد دقائق قليلة من إعلانها! وإذا أردنا أن ندخل لعبة التوقّعات من منطلق المساواة وباعتبار أنّ «ما حدا أحسن من حدا» فإنّنا «نرى» في المستقبل المنظور وغير المنظور، في المستقبل القريب والبعيد أنّ «التوارد في الأفكار» بين مختلف المحطات سيبقى على ما هو عليه، وسيستمر المعنيون في لعبة إضافة تفصيل إلى برنامجٍ زميل أو حذف تفصيل منه ثم التأكيد أنّ فكرتهم جديدة من نوعها ولا تشبه أي برنامج آخر، وأنّ أي تشابه هو مجرّد «توارد في الأفكار»! وكل عام والجميع بخير.