يحمل رحيل قادة «حماس» عن دمشق في هذه الظروف تحديداً دلالة مهمة بالنسبة إلى المسألة الفلسطينية. وتزيد أهميتها بسبب هذه المسألة الآن لا سيما وجودها في منطقة مفصلية من الجغرافيا والتاريخ ومن سيرورة الداخل الفلسطيني. ولأن هذا الرحيل اقترن بتصريحات عن اعتماد الحركة خيار المقاومة الشعبية، يصير أكثر من مجرّد هروب من الأنشوطة السورية التي نُقل عن الممسك بحبلها، الرئيس الأسد، أنه جدّ غاضب على «حماس» التي أدارت له ظهرها في عزّها وحماها! خروج «حماس» من دمشق لن يحمل أي معنى إذا لم يكن خروجاً في الجغرافيا وخروجاً من مدار دمشق الفكرة والعقيدة والأداء. وهو، مهما ترافق مع تصريحات مطمئنة وإيجابية من عيون المسألة الفلسطينية، لن يكتمل إلا إذا اقترن بحركة محسوبة تُخرج «حماس» من تحت عباءة الوصاية السورية. وهي وصاية دفع الفلسطينيون ثمنها بالدم والتضحيات وتأجيل استحقاقاتهم على العرب بمن فيهم سورية. وما زلنا نذكر طبيعة هذه الوصاية التي أرادت تثمير القضية الفلسطينية حتى النخاع لمصلحة المشروع السوري الذي اتسم دائماً بالعُقم وضيق الأفق. فكان على الفلسطينيين أن يدفعوا الثمن لسورية الأسد في لبنان وسواه مرات منذ دكّ الجيش السوري تل الزعتر وحشر التواجد الفلسطيني هناك في زاوية «اليك»، وأخضعه لمقتضيات المصلحة السورية في لبنان وقبالة إسرائيل، إلى أن أراد الراحل ياسر عرفات الاستقلال بالقرار الفلسطيني وتعميده حراً في الميدان. هكذا دمر النظام السوري ومبعوثوه نهر البارد والبداوي فوق رأس عرفات ورؤوس رفاقه ولاحقه في ساحات العرب ومحافلهم عقوداً! أما بقية المسار الذي قطعته المسألة الفلسطينية فكانت محفوفة بأخطار لا تُحصى، بخاصة تلك التي أوجدتها أطراف عربية. فقد تدخل أكثر من طرف عربي لفرض وصاية على المسألة الفلسطينية أو حرفها عن مسارها تحقيقاً لرغبات حاكم أو محور. وأبى عرفات إلا أن يرتكب الخطأ ذاته حينما اقترب من صدام حسين إلى حدّ تأييده في احتلال الكويت كجزء من استحقاقات وصاية بغداد على منظمة التحرير وأدائها. خطأ مبدئي وتكتيكي وسياسي دفعت القضية ثمنه على مدى سنوات، فيما هُجّر حوالى 300 ألف فلسطيني من أعمالهم ووطنهم الثاني الكويت ومن دول أخرى خليجية. وأملنا ألا تخرج «حماس» من وصاية سورية لتسقط في أحضان وصاية جديدة على غرار ما فعله عرفات. وأملنا الأكبر أن تتخلّص من العقدة الثانية التي تلف عنق الفلسطينيين منذ بدأت رحلتهم الجبلية الصعبة، عقدة الكفاح المسلح وإغراء العمل العسكري وخطابات «المقاومة» وغواية «الصواريخ» وخيار خلاصي غيبي يتمثل بلغة دينية غير سياسية ومشروع غير قابل للحياة. أن تخرج «حماس» من قيد الوصاية السورية لا يكتمل إلا بالخروج من أنشوطة الفعل العسكري الذي سبّب في العقود الأخيرة أكبر ضرر لمسألة هي أعدل المسائل الدولية في الراهن. بمعنى، أن الخروج من دمشق وما ترمز إليه من عُقم ودموية وإنتاج للدمار الذاتي، ينبغي أن يتبعه دخول في السياسة. ونرجح أن في نتائج الانتخابات التشريعية في مصر وتونس والمغرب ما يحمّس حركة «حماس» للذهاب في هذا المسار. فلا بدّ لسيرورة الربيع الإسلاموي العربي، في نظر الحركة ونظرنا، إلا أن تنعكس في صورة مطابقة أو مماثلة على المجتمع الفلسطيني من حيث حصول التيارات الدينية على حصة الأسد من أصوات الناخبين في أية انتخابات مستقبلية. التحرر المزدوج لحركة «حماس» من وصاية دمشق المأزومة بنظامها ومن أسر المشاريع الغيبية والخوض في السياسة هو تطور محمود في مسار المسألة الفلسطينية. تطور يعني عودة كل الفصائل إلى أرض الواقع من غربة في كنف الوصاية أو من منفى في الحلول الغيبية العقيمة. وهي عودة من المفروض أن تعيد للمسألة الفلسطينية حيويتها ومستقبلها بعد أن تبدد كغيوم الصيف أو تلاشي الدخان بعد انطلاق صاروخ القسام من إحدى بيارات غزة! وأخشى أن تكون عودة «حماس» من دمشق العُقم إلى غزة الواقع، تمهيداً للذهاب إلى وصاية جديدة في حضن القوى الإسلاموية الصاعدة في المراكز العربية. يومها، نكون لا رحنا ولا جينا.