ممّا لا شك فيه أنّ سنة 2011، سنة فارقة في تاريخ الإسلام السياسيّ في المنطقة. وربما أهمّ ما فيها بخصوص الإسلاميين أنه، ومن بوابة «الربيع العربيّ» حصراً، انتقل كثير منهم من مرحلة إلى مرحلة أخرى مغايرة تماماً، ولا يمكن التنبؤ بنحو دقيق بوصفها أو ما يمكن أن تُسفر عنه. وبينما استطاعت قوى منهم الصعود من مواقع المعارضة إلى مواقع صنع القرار (كما في تونس وما يحدث في مصر)، ينتظر آخرون ذلك بفارغ الصبر (الإخوان السوريون)، وهذا ما سيضعهم أمام اختبار تاريخيّ، لا يُعتقد أن يخرجوا منه بالنحو الذي يرجونه. ربما من المهم الاعتراف بأنّ الإسلاميين ما زالوا ينجحون إلى الآن في الوصول إلى السلطة، لكن ليس لأنّ التاريخ قد ابتسم في وجههم إلى الأبد، بل نتيجة أسباب عدة لا تبدأ ببراعة سلوكيّة الإسلاميين في التعاطي مع «التركات الكارثية» الهائلة التي خلّفتها أنظمة الاستبداد، ولا تنتهي بضعف القوى الثقافيّة والحداثيّة والمعارضة... إلخ. لقد تجسّدت ذروة خطاب الإسلام السياسيّ لوقت قريب كما هو معلوم في شعار «الإسلام هو الحلّ»، لكن هذا الشعار جرى عليه تحوّل مهمّ في الربيع العربيّ، ليس بعدم رفعه من قبل الإخوان المسلمين، بل من خلال سلوكهم في شأن التعامل كما لوحظ مع الربيع العربي، لدرجة انقلاب الشعار إلى أنّ «وصول الإسلاميين إلى السلطة هو الحلّ» مهما كلّف الثمن. لكنْ في كلّ ذلك، هل نجح الإسلاميون، بمن فيهم السلفيون الذين دخلوا المعترك الديموقراطي (؟) حديثاً، في تحقيق ما يريدونه (على الأقل إلى الآن) كما هو مرسوم في أيديولوجياتهم، وبخاصة في شأن إمكانيّة قيام «دولة إسلامية»؟ أوّلاً، وكما نعلم لقد تبخّر ما حلم به «إخوان سابقون» في تجسيد ما كرّسه الخميني سنة 1979 (لا يُنسى أنّ سيد قطب كان أحد «المرشدين الأيديولوجيين» للخميني)، وبالتالي ما قدّمه الخميني كان وسيكون «المثال الإسلامي» الأخير في المنطقة. ما يُقدّمه الربيع العربيّ من فرص أمام الإسلاميين ليس انتصاراً لهم بالمعنى «التاريخيّ» والحداثيّ، بمقدار ما هو إثبات آخر لانتكاسة «حُلم طوباوي» ما زال مرسوماً بين ثنايا أيديولوجية الإسلام السياسيّ (وحتى الإيرانيون حاولوا من بداية الربيع العربيّ «أسْلمته»، من أجل «تحصين» طهران من شرارت الانتفاضات: ما يحدث في العالم العربي هو امتداد للثورة الإسلاميّة الإيرانيّة!). من الصحيح تماماً أنّ ربيع العرب قد فتح لهم أبواباً لدخول «اختبار» السلطة، إلا أنّه من جهة أخرى، برهن لهم أنفسهم أنّ الباب الأهمّ الذي ما فتئوا يتكئون عليه أمام الشعوب الإسلامية، بوهم قيام «دولة إسلامية» بألف ولام العهد، كما هي مرسومة في ذهنيتهم، باب قد أُغلق وإلى الأبد. هل سنشهد بالتالي إسلاميين من دون إسلام (سياسيّ)؟ ربما من المهم ملاحظة أنّ «أيديولوجية» الإسلام السياسيّ بالمعنى الدقيق للاصطلاح، لم تكن ولن تكون وراء صعود الإسلاميين إلى السلطة؛ وهكذا، فإنّ صعودَهم ليس صعوداً لأيديولوجية الإسلام السياسي. وما سيستتبع هذا الصعود في الأيام المقبلة لن يستند أيضاً إلى الإسلام السياسيّ؛ وهذا ما سيضع الإسلاميين أمام تحدّ كبير، ليس فقط أنهم لن يستطيعوا التحدّث بلغة الإسلام السياسيّ والأحلام (سيكون تركيزهم بالدرجة الأولى على الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية...)، بل أيضاً في قدرتهم على الانقلاب على الأيديولوجية الأرثوذكسيّة التي بنوا شرعيتهم على أُسسها، فضلاً عن تحدّ آخر هو أمام الشعوب العربية التي صوّتت لهم، وبخاصة تلك المؤمنة بأيديولوجياتهم. وفوق ذلك، إنّه بكشف الربيع العربيّ الأحجامَ الحقيقيّة لحركات الإسلام السياسي، وجعلهم يصعدون إلى السلطة من بوابته حصراً ومن دون الاستناد إلى «الأيديولوجية العليا الخلاصيّة» التي تحتكم إليها مخيلتهم، يبرهن على وهميّة ما كان يُقال حينما كان الإسلاميون في موقع المعارضة. وهو ما سيجبرهم لاحقاً على تغيير سلوكهم وخطابهم: من خطاب في موقع المعارض (خطاب كان أشبه بالخطاب النستالوجي والعاطفي) إلى خطاب في موقع السلطة «المسؤول»، والذي سيكون له استحقاقات ستضعهم أمام اختبار: إمّا أن يدخلوا التاريخ فيغيروا من البنية الهيكلية لأيديولوجيتهم ويعيدوا إنتاج ذاتهم وفقاً لشروط الحداثة السياسية والتاريخ، أو أن يبقوا على هامشه. التحوّل في مشهديّة الإسلاميين في منطقة شمال أفريقيا وما يشهده الشرق الأوسط، جدير أخذه بالاعتبار والنقد، لأنّ من شأن ذلك وضع مستقبل تلك الأيديولوجية على المحك ثانية أمام تحديات الحداثة وإمكانيّة دخول الإسلاميين التاريخ. لهذا من الخطأ الكبير الانجرار وراء مقولات إنّ الربيع العربي قد تحوّل بوصول الإسلاميين إلى السلطة إلى ربيع «إسلامي»، كما يؤكد بعض المتخوفين (على رغم أنه يجب عدم إنكار القلق من الفوضى التي سيخلفها هذا الصعود في تأخير عملية التغيير الديموقراطي الحقيقي). كلّ ما في الأمر أنّ الإسلاميين كانوا الأقدر، أكثر من أي فصيل سياسي آخر، في قراءة «من أين تؤكل كتف» الشارع، مستندين بذلك إلى الدمار الهائل، السياسي والاجتماعي والثقافي، ما قبل الانتفاضات العربية. وعلى رغم هذا، إنّهم أمام جولة من تحولات التاريخ، ومن المشكوك به أن يخرجوا منها سالمين (السبب الرئيس هو الفقر السياسي الحداثي الذي يعاني منه خطابهم). على مدار أكثر من ثمانين عاماً كان سؤال «الدولة الإسلاميّة» هو المسيطر على أيديولوجية الحركات الإسلاميّة من أشدّها تطرّفاً إلى أقصاها في الاعتدال. وهو سؤال في الواقع ينتمي إلى عصر الحداثة، ولم يكن أبداً ركيزة من ركائز الخطاب التراثي السلطاني؛ إلا أنه في الوقت نفسه سؤال مقلوب على الحداثة. وهذا ما جعله دائماً سؤالاً مخياليّاً وهميّاً أكثر من كونه سؤالاً تاريخيّاً. وحتى إذا تماشينا مع نظر كثير من التيارات الإسلامية إلى الربيع العربي بكونه «فرصة» ال2011 لإثبات ذاتهم في السلطة، إلا أنّ هذه الفرصة ستكون الأخيرة، ولن تتكرر. إّن المسألة الأهمّ، هي عند الأطراف المقابلة الأخرى في ضرورة إعادة بناء خطاب ثقافيّ وسياسيّ، خطاب «جذري» يستفيد من الأخطاء السابقة التي نحصد نتائجها الآن، ويتماشى في الوقت نفسه مع مقتضيات المرحلة الانتقالية. * كاتب سوري