بدأ يشعر أن الظروف أصبحت ضده، وأن الحظ تخلى عنه، وأنه منحوس يرافقه التشاؤم: كان حلمه الأول أن يتزوج فتاة جميلة، ليس لجمالها مثيل في قريته، وذات يوم بينما كان يتسوق في المدينة المجاورة لبلدته، وقع نظره على فتاة أحلامه، استولى هاجس الخوف على نفسه من أن يسبقه أحد لخطبتها، فطرق باب أهلها على الفور لخطبتها، وبعد أيام قليلة عقد قرانه عليها، وكانت مفاجأته كبيرة عندما اكتشف أن جمال من آسرته بحبها للوهلة الأولى، جمال زائف: الشعر الأشقر باروكة، والعيون الخضراء التي غرق في بحرها، ما اخضرارها إلا عدسات لاصقة، تيقن أنه منحوس وأمن بالمثل القائل: «المنحوس منحوس ولو علقوا على رأسه فانوس»، فاتخذه شعاراً دائماً له، ولنسيان مرارة زواجه الفاشل قرر السفر والاغتراب بعيداً من بلده. واتباعاً لعادة أهل الأرياف في تزويد أبنائهم بما يحتاجونه من مؤونة عند سفرهم، قررت أمه أن تطبخ له ذكرين من البط الذي كانت حريصة على تربيته في البيت لمثل هذه الأمور، ولإكرام الضيف، ولسوء حظه، لم تستطع والدته ولا هو الإمساك بالبط الذي طار عالياً فوق سطح البيت، ما حدا بصاحبنا وهو يندب حظه السيئ أن يعمد إلى جمع حقيبة ملابسه مودعاً أمه، وفي طريقه إلى المطار كان يبتهل إلى الله ويتمتم بكلمات أن يفك الله نحسه، ولما استوى قاعداً في مكانه، كان يفكر ماذا لو أعلن عن عطب في الطائرة ما سيعرض سفره للفشل؟ وبينما هو منهمك في تفكيره أذا بمكبر الصوت يعلن عن اضطرار الطائرة للهبوط في أقرب مكان لعطب حل بها، لم يستيقظ إلا وهو مرمي وسط الأشجار بين الحياة والموت في مكان لا أثر له إلا للأشجار والأحجار وبحيرة قريبة منه، ضاقت به الدنيا وظن أنه هالك إذا لم يتداركه ربه برحمته، نظر لوحشة المكان، فأراد أن يصرخ فتوجس في نفسه خيفة هجوم الوحوش الضارية عليه، تذكر مقولته الشهيرة عن المنحوس فتأكدت له صحتها، لكن لا وقت متاح ولا مكان مناسب ليندب حظه السيئ، فعمد إلى بناء كوخ يؤويه في نهاره ويقيه برد الليل وخطر الوحوش. مضت الأيام في تثاقل كبير. فغدت الساعة يوماً واليوم شهراً، ولا أثر لأدمي يؤنس وحشته، ولا لعابر سبيل ينور طريقه، في صباح اليوم الثامن، عمد إلى إضرام النار في قش جمعه بولاعته الناجية معه، ثم ذهب ليصطاد سمكاً من البحيرة القريبة منه، أو ربما يجد في طريقه طائراً حائراً بين أغصان الشجر يسد به جوعه، ما كاد يبتعد عن مكان النار إلا ببضع خطوات حتى التفت ليلمح كوخه وقد أصبح ركاماً من الرماد، حينها ركع باكياً متضرعاً، إلى من لا يسأل في الكرب سواه أن يتولاه برحمته فهو العالم بحاله، في هذه الأثناء كان صوت يشبه هدير محرك طائرة يقترب من مكان الدخان المتصاعد من الكوخ المحترق، التفت بتثاقل ويداه لا تزالان ممدودتين إلى السماء، ليلمح مروحية تهم بالنزول بقربه، دبت فيه الروح، وهب مهرولاً نحوها، ليخبروه: أنهم كانوا بصدد مغادرة المكان بعد فقدانهم الأمل في العثور على ناجين من حطام الطائرة المنكوبة، لكن لما رأينا النار والدخان الكثيف يخرج من الكوخ توجهنا على الفور إلى هذا المكان، قال الرجل والدموع في عينيه: سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم، بعد ذلك علم من الصحف أنه الناجي الوحيد من بين ركاب هذه الطائرة، فقال وهو يبتسم: الحمد لله أنا محظوظ... لقد كتب الله لي عمراً جديداً. أحمد محمد أحمد مليجي - الرياض [email protected]