هل آن أوان الصحوة المصرية في القارة الإفريقية بعد فترة انكسار وانحسار، ارتكبت فيها السياسة الخارجية المصرية أخطاء تصل إلى حد الخطايا، عندما ولت وجهها شطر الغرب من جهة عامة، وساعة أطلق الرئيس المصري الراحل أنور السادات قولته الشهيرة أن 99 في المئة من أوراق اللعبة في يد الولاياتالمتحدة الأميركية. أكثر المشاهد التي اعتبرت مكاسب مبكرة لرئاسة مصر الجديدة، تمثلت في الوفود الإفريقية، التي شاركت في حفل تنصيب الرئيس السيسي، والحبور الذي بدا على محياها، وملامح «سر البعث» التي شملتها، وكأن الحلم على الجانب الإفريقي بدوره كان في انتظار الإشارة الأولية من ساكن القصر الجديد، ليجئ الجواب إيجابياً إلى أبعد حد. في كلمة العرش الجديد إن جاز التعبير كانت هناك رؤية حقيقية لمصر بالنسبة لإفريقيا، رؤية عبرت عنها كلمات يفهمها العالم، ويتقبلها المجتمع الدولي. الرئيس السيسي لا ينكر على إثيوبيا والإثيوبيين الحق في التنمية والنماء والازدهار، لكن وفي ذات الوقت، يتطلع كذلك في حسم وعزم، وعدالة وثقة، أن لا تنكر إثيوبيا على مصر حقها في الحياة، وشتان بين خطابين إعلاميين رئاسيين للتعاطي مع أزمة مياه النيل وإشكالية سد النهضة عبر عامين فقط من تاريخ المحروسة. الرؤية الإستراتيجية للرئيس السيسي، التقطها العالم عبر كلمات وإشارات الخطاب الأول، الذي تفوق فيه على ذاته، وقدم مصر الجديدة للعالم، مصر الباحثة عن السلام في زمن الخصام، ومصر الإفريقية المتطلعة إلى الوفاق في عالم امتلأ بالافتراق، ولهذا فإن مياه النيل هي موضوع لالتئام الشمل وللتعاون المشترك، ولاقتصاديات الابتكار، ولمواجهة التحديات والأطماع العالمية، في القارة السمراء، بثرواتها الطبيعية، وأراضيها البكر، وقلوبها البيضاء. قرار عودة مصر إلى الاتحاد الإفريقي قطعاً على الأبواب، وإعلان وزير خارجية إثيوبيا تيدروس أدهانوم عن لقاء الرئيس السيسي مع رئيس الوزراء الإثيوبي هايلي مريم دسالين على هامش اجتماعات الاتحاد الإفريقي، حدث إستراتيجي، وليس لقاء تكتيكياً، ذلك لأنه يفوت الفرصة على الأيادي الخبيثة التي تحاول اللعب في الفضاء الإستراتيجي الإفريقي، واللعب على وتر العرقيات الإفريقية المختلفة، تلك اللغة التي يجيدها الإمبرياليون الجدد والقدامى على حد سواء. الحلم المصري لإفريقيا يعود متجلياً في قلوب وصدور الأفارقة فقد حدثهم المرشح الرئاسي وقت حملته الانتخابية المشير السيسي عن نظرته الرؤيوية والاستشرافية لعلاقة القاهرة والمصريين بالأشقاء الأفارقة، وحتمية أن تعود إلى كامل لياقتها كما كانت في الخمسينات والستينات من القرن الماضي. حديث السيسي ليس حديثاً إنشائيا، بل براغماتياً بالمعنى الإيجابي للكلمة، فالرجل يرى أن الدول الإفريقية تحتاج إلى إدارة نقاش جدي وحقيقي حول مشكلاتها، وإلى التعاون لخلق حلول إبداعية لها، حتى «نتمكن من مساعدة بعضنا بعضاً» على حد قوله. يدرك السيسي ولا شك أن الإستراتيجية الأميركية الشهيرة للعقود المقبلة «الاستدارة نحو آسيا»، في أفضل الأحوال متعثرة، ولذلك ربما تحتاج الأجندة الأميركية والأوروبية من خلفها إلى خلق بديل جديد سريع، لتشغيل ماكينتها السياسية والإعلامية، ماكينات اقتصاديات العسكرة والحروب معاً. والشاهد أنه ليس أفضل من إفريقيا موضعاً وموقعاً لنقل المواجهات الدولية للحفاظ على الفضاء الإستراتيجي الغربي في مواجهة النفوذ الصيني المتصاعد بسرعة الصاروخ في بلدان القارة الإفريقية، وكالعادة فإن واشنطن هي رأس الحربة في المواجهة القادمة، وهنا المنطلق لفهم ما جرى في 22 شباط (فبراير) 2013 عندما سارعت واشنطن الى إرسال جنودها إلى النيجر لإقامة قاعدة تجسس خاصة بالطائرات من دون طيار. موسكو وبكين تتقاربان اليوم على نحو مثير، ودول أميركا اللاتينية، يشد بعضها بعضاً، ومجموعة البريكس تتطلع لكسر احتكارات مجموعة الثماني لمقدرات العالم. على أن أمرا آخر يتبين جلياً، وهو أن هناك من لن يترك هذا الحلم يمضى قدماً، أو على الأقل سيحاول إعاقته قدر استطاعته ... هل أتاكم حديث وزير الخارجية الإسرائيلي أفيجدور ليبرمان في الأيام القليلة الماضية؟ إنه يتحدث عن تل أبيب التي تستعد للانضمام إلى الاتحاد الإفريقي في 2015، كعضو مراقب، مشيراً إلى أن العلاقات مع الدول الإفريقية تمثل «أهمية إستراتيجية كبيرة لإسرائيل». والمثير في المشهد أن تصريحات ليبرمان جاءت قبيل جولة إفريقية «إستراتيجية» وفق وصف وزارة الخارجية الإسرائيلية، تستمر لمدة عشرة أيام يزور خلالها كلاً من رواندا، وساحل العاج، وغانا، وإثيوبيا، وكينيا، ويرافقه فيها وفد من معهد التصدير الإسرائيلي يضم ممثلين عن 50 شركة. والثابت أن إدراك إسرائيل أهمية إفريقيا شأن قديم، وفي علاقتها مع إثيوبيا تلعب على وتر توراتي يعود إلى حكم سليمان لبني إسرائيل، الأمر الذي يستدعي بالضرورة عودة مقابلة للمؤسسة الكنسية المصرية هناك لإحداث حالة توازن ولو نسبية، عطفاً على بعض المؤسسات الكنسية المصرية الأخرى كالكنيسة الكاثوليكية، ونفوذها في إيطاليا تحديداً، وتقاطعات ذلك النفوذ مع المشروعات التي يمكن أن تسبب ضرراً لمصر، وفي المقدمة مشروع سد النهضة. أمن مصر القومي لا يتحدد عبر واشنطن، وهو الأمر الذي أثبتته تجربة «30 يونيو» باقتدار، بل تتبلور في اتجاهات دول القارة الإفريقية وبخاصة التي تشرف على النهر الخالد، فما تفعله إثيوبيا اليوم وما ستصير عليه تجربة سد النهضة حكماً سيكون النبراس لبقية تلك الدول في تعاطيها مع ملف المياه والسدود. * كاتب مصري