لم تشهد قمة لدول مجلس التعاون الخليجي في تاريخ القمم الخليجية، تطورات وأحداثاً إقليمية ودولية، مثلما شهدت القمة الخليجية ال «32»، إذ التطورات السياسية التي تعصف بالدول العربية من تونس فمصر وليبيا واليمن وسورية، ثم الانسحاب الأميركي من العراق وما سيتركه من فراغ بعد احتلال دام أكثر من تسع سنوات، وكيفية صياغة وبلورة العلاقات الخليجية مع العراق بعد الانسحاب الأميركي وما خلفه من تراكمات سياسية واقتصادية واجتماعية، سيكون لها تداعيات على دول مجلس التعاون الخليجي. كما لم تشهد قمة خليجية بياناً ختامياً محققاً لآمال شعوب دول الخليج العربي، وحتى الشعوب العربية، سياسياً واقتصادياً واجتماعياً، وعسكرياً، مثل بيان هذه القمة، الذي نتمنى أن تتحقق كل البنود التي وردت فيه، وألا تغرق في بحر اللجان التي يشكلها المجلس، وأن نرى تنفيذها عاجلاً، لمواجهة التحديات التي تعصف بالمنطقة، وليكون اتحاد الخليج العربي نموذجاً سياسياً واقتصادياً واجتماعياً واستراتيجياً يفتخر به كل عربي، ويصبح نواة لعمل عربي مشترك وفاعل. حدوث بعض القلاقل المفتعلة في البحرين والكويت وغيرهما من دول الخليج والمنطقة، يقلق كل مواطن خليجي، ويشعره بمحاولة خارجية لهز الاستقرار في بعض دول مجلس التعاون، لذلك لا بد من وقفة خليجية حازمة جداً في دعمها لاستقرار دولها وشعوبها، واحتواء الأزمات التي تدور حولها أو على حدودها كالأزمة اليمنية، وتطورات الملف النووي الإيراني، حتى لا تكون هذه الأزمات منفذاً لهز الاستقرار والتدخل في الشؤون الداخلية لدول المنطقة. يتطلع المواطن الخليجي إلى اختراق في القمم الخليجية، يحقق له طموحه وتطلعاته، من ناحية التكامل السياسي والاقتصادي والاجتماعي لدول المجلس، وأن يلمس تقدماً في تكامل وتوحد المؤسسات الخليجية السياسية، والشعور بمنظومة خليجية لها وزن ليس على المستوى الإقليمي فقط، بل تتعداه إلى العالمية، مثلما هو الاتحاد الأوروبي ومنظومة حلف الناتو، فالدول العربية الخليجية تملك كل المقومات والإمكانات التي تساعدها في تبوأ الدور الذي تستحقه في التأثير في السياسة العالمية، من خلال التكامل في المؤسسات السياسية والاقتصادية، خصوصاً في هذا الوقت بالذات الذي يشهد تحولات في المحيط الجيوسياسي الدولي، فهو يتمتع بناتج محلي قدره 898 بليون دولار، ومساحة قدرها 2423.3 ألف كلم مربع، و38.6 من السكان. الاعتماد على القوة العسكرية الذاتية لدول مجلس التعاون الخليجي، كان هاجس كل مواطن خليجي، لما تمثله دول المجلس من أهمية كبرى، اقتصادية وإستراتيجية، ولذلك جاءت إحدى بنود البيان الختامي لتؤكد على هذه النقطة بالذات، أي بناء قوة خليجية ذاتية موحدة، لتكون الوحيدة المناط بها حماية منطقة الخليج العربي، والوصول إلى كيان خليجي موحد في قراره العسكري، من خلال توحيد الجهود العسكرية، في التسليح والتدريب واتخاذ القرار، خصوصاً في هذا الوقت بالذات، إذ ينظر له المراقبون ومنذ تأسيسه في 25 آيار (مايو) 1981 بأنه الأقرب للاتحاد بين المنظومات العربية، نظراً لتقارب سكانه اجتماعياً وثقافياً. قيام السوق الخليجية المشتركة، وتوحيد الاتحاد الجمركي، وإنشاء البنك المركزي، هي خطوات أساسية وطموحة لتحقيق تكامل اقتصادي يشعر فيه المواطن الخليجي، ويجعل من دول مجلس التعاون الخليجي رقماً صعباً جداً في المعادلة الاقتصادية الدولية تفرض رأيها وشروطها في النظام المالي والاقتصادي على المسرح الدولي، ولذلك لابد من تطوير مؤسسات دول مجلس التعاون السياسية وتوحيدها لاتخاذ قرارات مصيرية موحدة على المؤسسات كافة في دول المجلس، ما يجعل الانتقال إلى فيديرالية أو الكونفيدرالية أمراً مهماً وحتمياً، وهو ما أشار إليه خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز في كلمته الافتتاحية للمؤتمر، عندما قال: «أطلب منكم اليوم أن نتجاوز مرحلة التعاون إلى مرحلة الاتحاد في كيان واحد يحقق الخير ويدفع الشر إن شاء الله»، ما يجعل المواطن الخليجي والعربي يتفاءل، خصوصاً أن شعوب الخليج لديها تجربتان ناجحتان في التوحيد والاتحاد، فتوحيد المملكة على يد المغفور له الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن نموذج لأكبر وحدة عربية ناجحة في التاريخ العربي الحديث، واتحاد دولة الإمارات العربية المتحدة كذلك تجربة ناجحة جداً استطاع الشيخ زايد بن سلطان، رحمة الله عليه، أن يمنع قيام سبع دويلات ضعيفة جداً تكون مطمعاً للأعداء ومنفذاً للتدخلات الخارجية في المنطقة. إيقاع الشعوب الخليجية بالنسبة لتطلعاتها وطموحاتها من المجلس، متقدم على إيقاع مؤسسات الدول الخليجية السياسية ومجلسها، لذلك جاء بيان القمة ال «32» الختامي مواكباً لتطلعات شعوبها، ويمثل نجاحاً كبيراً، من خلال تبنيه لمبادرة خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز في الانتقال من مرحلة التعاون إلى مرحلة الاتحاد، وهي خطوة تواكب تطلعات ورؤى شعوب دول مجلس التعاون الخليجي، لذلك جاء تبني هذه المبادرة ليكون لبنة من لبنات البناء الخليجي الموحد، القادر على مواجهة الأحداث والتطورات كافة التي تحيط بمنطقة الخليج على وجه الخصوص والمنطقة العربية بشكل عام، كما أن تبني تسريع مسيرة التطوير والإصلاح بما يحقق مزيداً من المشاركة لجميع المواطنين والمواطنات داخل دول مجلس التعاون، ليظهر أن قادة المجلس ليسوا معزولين عما يدور من أحداث حولهم، ولها تأثير على شعوبهم، لذلك أرادوا ألا يتركوا مجالاً لأي جهة أن تستغل أو تتدخل في الشأن الداخلي، فالمواطنون مشاركون في القرار ومسؤولون عن الاستقرار والتماسك الاجتماعي، فالجميع سواسية في الحقوق والواجبات. كما أن تحسين الجبهة الداخلية وتفعيل الدور الديبلوماسي الخليجي لحل القضايا العربية والإسلامية هما من بنود البيان الختامي، وهو دليل على الدور الإيجابي الذي ستلعبه دول الخليج العربي في المستقبل على المستويين الإقليمي والدولي، وبما يحقق الاستقرار للأمتين العربية والإسلامية ويحمي شعوبهما من التقلبات والأزمات. للمرة الأولى في تاريخ القمم الخليجية، يشعر المواطن الخليجي بأن هذه القمة تاريخية، لأنها حاكت الكثير من تطلعاته وهمومه، وهذا ما يجعلنا نقدر لخادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز قيادته التاريخية لهذه القمة ومبادرته التاريخية للاتحاد. * أكاديمي سعودي. [email protected] twitter | @ALIALQASSMI