انطلقت دار «ميريت» المصرية عام 1998 وقدمت أول اصداراتها عام 1999. وبعد فترة وجيزة أصبحت الدار معروفة في العالم العربي بصاحبها محمد هاشم، ذاك الشخص الذي لا يهدأ في مكان ولا يؤمن بالثبات، فالثبات بالنسبة له يعادل الموت، يضحك ويبكي في آن، ينفعل ويهدأ في اللحظة نفسها. موقفه لم يتغير منذ أن عرفته في بداية التسعينات، فهو مناهض بطبيعته لكل أشكال قمع الحريات، ناهيك عن حرية التعبير، وبالرغم من هذه الولادة الحديثة للدار مقارنة بدور أخرى عريقة إلا أنها نجحت فوراً في مراكمة رأس مال رمزي ضخم ولافت، فقد انخرطت الدار بعد عام واحد من تأسيسها في نشر الإبداع، وبخاصة للشباب المبدعين، وقامت بنشر كتب لمفكرين خارج الدائرة الرسمية المؤسسية وقلة ممن هم محسوبون على المؤسسة، وبذلك أوجدت لنفسها توجهاً راديكالياً لا يخضع مطلقاً لشروط السوق، فعلى سبيل المثل في عام 1999 -العام الأول-، أصدرت الدار كتباً في سلسلة «مختارات ميريت» لكل من: عاطف كشك، السيد ياسين، سليمان فياض، سيد خميس، هالة مصطفى، أحمد جودة، مجدي نصيف، رجائي فايد، أحمد بهاء شعبان، شريف يونس، سيد البحراوي، مجدي جرجس، عماد أبو غازي... طليعية وبوهيمية بدأت في العام الأول سلسلة الترجمة، وفي العام التالي (2000) عمدت الدار إلى نشر الإبداع، وبدأت بالشعر وليس بالرواية، وفي ذلك مخاطرة كبيرة ومخالفة لكل شروط السوق، الذي لا يقبل كثيراً على دواوين الشعر. في عام 2001 بدأت الدار تنشرالرواية في سلسلة «تجليات أدبية» وضمت المطبوعات آنذاك ثلاثة من شباب المبدعين، وهم إبراهيم فرغلي ومنصورة عز الدين ومي خالد. توالت مطبوعات الدار التي قدمت العديد من المبدعين والمبدعات في الوسط الثقافي المصري والعربي. وعلى ذكر هذا التقديم، لا بد من التأكيد أن بعض هؤلاء الكتّاب ارتضى البقاء في الدار قادراً على تحمل طليعية (وبوهيمية) طريقة ادارتها -وهذا ما يميزها عن غيرها-، في حين لم يحتمل بعض آخر هذا الامر، فترك الدار باحثاً عن مكان «مؤسسي» كامل يؤمن له عائداً مالياً ودعاية منظمة رائجة. لعل الهالة الرمزية التي تكتسبها أي دار، تنبع من إمكانية «اكتشاف» هذا المبدع أو ذاك وتقديمه باعتباره «اكتشافاً»، كما فعل العديد من الدور مع كتاب أصبحوا من «كبار» الكتاب الآن. اكتشفت دار ميريت العديد من الأسماء، من قبيل سحر الموجي وعلاء الأسواني -في مجموعته الأولى «نيران صديقة»- ومحمد صلاح العزب في روايته «وقوف متكرر»، لكنها لم تقم بإضفاء القداسة المطلوبة للانتشار في السوق على هذه الأسماء، فكان أن تمكنت دور أخرى من إضفاء القداسة على هذه الأسماء المكتشفة بالفعل. والغريب في هذا الشأن، أن بورديو يؤكد -وهو ما ثبت صحته- أن اضفاء القداسة ليس سوى الاسم المخفف (المهذب) لمعنى الدعاية، سواء كانت حفلات توقيع أو جوائز أو لقاءات إعلامية أو مقالات صحافية ليؤدي الأمر في النهاية إلى تحقيق «أعلى المبيعات». وبصيغة أخرى، افتقدت دار ميريت الإتقان اللازم للقوانين التي يعمل بها الحقل الثقافي بحيث تنتج وتوزع المنتجات في دورة اقتصادية تقدم تنازلات فرعية للضرورات الاقتصادية (منبوذة لكنها ليست مرفوضة)، لكنها في الوقت ذاته تمتلك القناعة التامة التي تضع الربح المالي خارج المنظومة. من النادر أن تتمكن أي دار أو مؤسسة من تحقيق هذين الشرطين معاً، وقد تمكنت ميريت من تحقيق هذه الشروط بتعديل طفيف: اختفى المالي تماماً مفسحاً المساحة كلها للرمزي الذي لا يمكنه الاستغناء عن المالي، ليتمكن من الاستمرار. من هنا حدثت المفارقة في العلاقة بشروط السوق، وهو ما أدى إلى تراكم رأس المال الرمزي لدى دار ميريت عبر وسائل أخرى ليس من ضمنها إضفاء القداسة الدعائية على المنتج الثقافي. على مدار السنوات، تحولت دار ميريت إلى مكان آمن لكثير من المثقفين والكتاب الذين يرون أنفسهم خارج الدائرة المؤسسية الرسمية، فكان أن تحولت -ربما من دون قصد- إلى مكان للنقاش الدائم وللتجمع في أوقات الأزمات. وهو ما حدا بالدار بعد ذلك إلى عقد ندوات غير دورية للمطبوعات الصادرة عنها. وفي أحيان أخرى، كان يتم عرض أفلام تسجيلية، أو عقد أمسيات لإلقاء الشعر، أو غير ذلك من الأنشطة التي كانت تجتذب عدداً كبيراً من الجمهور، سواء ذاك الذي يعتبر نفسه جزءاً من الدار أو جمهور جديد معظمه من الشباب. من قلب هذا المكان الذي يتجمع فيه الرائح والغادي تبعاً لموقعه في وسط المدينة، خرجت حركة أدباء وفنانين من أجل التغيير من رحم حركة «كفاية»، وذلك عام 2005، وشاركت في المسيرات والتظاهرات والأنشطة آنذاك. لم يكن غريباً أن تتحول ميريت أثناء ثورة 25 يناير إلى مركز تجمع معروف للثوار والكتاب والمثقفين، وقد صدر عن هذا التجمع بيان أثناء الثورة، وبالتحديد يوم 7 فبراير، يؤيد مطالب المعتصمين في التحرير. بكل هذا التراكم الرمزي في المواقف والأزمات وأثناء الثورة، لم يكن من الغريب أن تعقد الدار ندوة لمناقشة أزمة جريدة «أخبار الأدب»، التي أعلن محرروها الاضراب عن العمل في مطلع شهر مارس احتجاجاً على السياسات التحريرية آنذاك. وأصدر المحررون بياناً في نهاية هذه الندوة يوضحون فيه أسباب الاضراب. كان لتضامن دار ميريت مع هذه المطالب دلالات عدة، منها قناعة القائمين على الدار بضرورة استكمال الثورة ورفض الارتداد إلى ما قبل 25 يناير، وهى بذلك تزيد من رأسمالها الرمزي الذي ينجم عن مؤازرة جريدة مثل «أخبار الأدب» التي لها انتشار واسع في مصر والعالم العربي. تطور الأمر وقامت حركة أدباء وفنانين من أجل التغيير بإصدار بيان يوم 3 مايو للتضامن مع أخبار الأدب، وقد وقع على البيان العديد من الكتاب العرب والمصريين. كان ذلك يعني أن الموقعين قد قبلوا الشرعية الثورية التي انطوى عليها بيان الاضراب وقبلوا شرعية المكان الذي صدر منه البيان. رأس مال رمزي هكذا ساهمت المواقف التي اتخذتها دار ميريت في مراكمة رأس المال الرمزي -الذي طالما اعتبرته المؤسسة شكلاً من أشكال المعارضة-، سواء كانت في شكل مواقف سياسية أو تضامن في الأزمات الثقافية أو نشر كتب تطعن في النظام البائد. أما ما أضاف أكثر لدار ميريت، فهو ارتباط اسمها بأسماء أشخاص لهم بالفعل رأس مال رمزي كبير منذ زمن، وهو ما ينطبق على حالة الشاعر أحمد فؤاد نجم، الذي ظل ملازماً للدار، وهو أعاد نشر أعماله الكاملة فيها. تحول المكان -دار ميريت- إلى علامة لا تحتاج لتفسير، كأنه أصبح دالاًّ ومدلولاً في آن، وهي سمة تنطبق على العديد من الأماكن الثقافية. لكن اللافت في دار ميريت أن الدلالات المرتبطة باسمها تشبعت تماماً بالمعاني الثورية المتمردة غير المنضوية تحت لواء الخطاب الرسمي المؤسسي. ولا بد من التأكيد هنا على أن ما كان للدار أن تراكِمَ هذا الكم من رأس المال الرمزي بدون الرؤية التي تبناها صاحب الدار -محمد هاشم- منذ البداية تجاه الثقافة والابداع وحرية التعبير، فقد أعلنت مواقفه وهى غير منفصلة عن مواقف الدارعبر المطبوعات التي تقدمها الدار، وعبر تصريحاته الدائمة في وسائل الاعلام (المتاحة)، أنه يؤمن أن حرية التعبير في الفكر والابداع لا سقف لها، ظننا جميعاً أن تتويج هذه الرحلة جاء مع جائزة «هيرمان كيستن» من الفرع الألماني لنادي القلم الدولي التي حصلت عليها دار ميريت أخيراً، لكننا كنا على خطأ، ظننا أن الثورات معنا، فإذا بها علينا، وإذا بطفل يخرج على شاشة التلفزيون ليقول إن دار ميريت كانت تؤوي الثوار وتزودهم بوسائل الاعاشة وتعالج مصابيهم، وهذا حقيقي، وهو منبع فخر واعتزاز لصاحب الدار ولنا، فقد خاطر محمد هاشم بكل شىء في سبيل الاتساق مع مبادئه وفي سبيل دعم الثورة والثوار، وإذا بهذه المعلومة المقحمة في السياق تماماً - سياق السحل والقتل وانتهاك الأعراض-، تتحول إلى اتهام لمحمد هاشم بالتحريض. التحريض على الثورة؟ يا له من شرف عليه أن يفخر به، ويا لها من لحظة توحد فيها المثقفون على التضامن الكامل مع تلك الدار العزيزة وليكون الرد الواضح هو: كلنا ميريت وكلنا محمد هاشم وكلنا محرضون.