موقف الرفض للتدخل الخارجي في سورية يستعين دوماً بالنموذج العراقي، في سياق الوصف الشائع لنتائج التدخل الاميركي-الغربي ب «الكارثية»، ولعل تدقيقاً في هذه المقولة، بتأملها خارج حيز تبسيطات الابيض والاسود، قد يكون ضرورياً كتعبير حد أدنى عن التقدير لتضحيات الشعب السوري المعدومة النظير والأعباء الضخمة التي يتحملها الشعب العراقي. من قبيل المجازفة بتقرير البديهيات القول بأن الاحتياطي البترولي العراقي الهائل (ثالث أكبر احتياطي في العالم) وموقع العراق المفتاحي عربياً وخليجياً، ثم أمن إسرائيل، شكلت المغناطيس الجاذب للغزو الاميركي. على ان تنفيذ قرار الغزو ومرحلته اللاحقة، خالطتهما مساهمة عربية-إسلامية، والمعنى ان الانظمة السياسية الغربية مهما شُوهت صورتها في أذهاننا لاسباب تاريخية ومعاصرة، عالية الحساسية لتوجهات مواطنيها بفعل نشاطات المجتمع المدني السياسي واللاسياسي. لذلك، فعقيدة اليمين الاميركي المحافظ، الحرب الاستباقية وإسقاط الانظمة بالقوة، الموجِّهة لإدارة بوش الابن، بقيت مضمرة إلى ان تمكنت من شل حركة المجتمع المدني موقتاً، مستثمرة الاثر المشترك لتصرفات قيادتَيْ بن لادن وصدام. فهذه الادارة الهزيلة انتخابياً والمنغلقة أميركياً بإجماع كافة التحليلات عند انتخابها أوائل 2001، تحولت تحت تأثير الهجوم الانتحاري للقاعدة على نيويورك وواشنطن في أيلول (سبتمبر) 2001، إلى منقذ من الارهاب. وفي فيضان الإسلاموفوبيا العارم حينذاك، كان سهلاً تبرير استهداف العراق بحجة أسلحة الدار الشامل. ساعد على ذلك توطد الانطباع لدى الرأي العام بوجود الاسلحة، بسبب تشدد قيادة صدام تجاه فرق التفتيش، رافضة اثني عشر قراراً للأمم المتحدة قبل ان تبدأ تنازلاً مقسّطاً بعد فوات الأوان. في مرحلة ما بعد الاحتلال ايضاً تختلط المسؤولية الاميركية والعراقية-العربية بأكثر مما توحي تحليلات الابيض والاسود. عراق صدام حسين كان في 2003 قد انحدر الى نقيض بداياته عام 1968 والى نقيضٍ مضاعفٍ لوعد النشأة البعثية الليبرالية في الاربعينات، الموجودة في دستور الحزب وفي تكوين عفلق الشباب الثفافي في الوسط المسيحي المستنير. أواخر السبعينات كان العراق يتأهب للانفلات من مدار العالم الثالث مع البرازيل والهند. ورشة عمل تنموي لا تهدأ، كما وصفتها جريدة لوموند وقتها، هُزمت فيها الأمية وحل رخاء نسبي استمر حتى بعد اندلاع الحرب مع ايران عام 1980، مجتذباً آلافاً مؤلفة من العرب، فيما أضحى الجيش العراقي أحد اقوى جيوش العالم عدداً وعدة. ولكن الإنجازات المضادة كانت تترسب متزامنة في قلب التجربة. فما هو بمثابة القانون الحديدي أن بذرة الشمولية، علمانية كانت مرجعيتها أم دينية، تتضخم من دون هوادة، مبتلعة كل الإنجازات، لأنها إذ تعتبر حرية الفرد من حرية الجماعة وحرية المواطن من حرية الوطن، وليس العكس، فإنها تنتهي حتما إلى حكم الفرد. من هذه الثغرة السوداء الملتهمة كلَّ تقدم، جاء حصار الثلاثة عشر عاماً، وغزو الكويت، واندلاع الحرب الأهلية مع الاكراد، كما جاءت قابلية هيكل المجتمع العراقي للنخر الطائفي-الديني والإثني-القومي، وبينما تكرست القطيعة النهائية بين النظام والشيعة إثر انتفاضتهم المدعومة من ايران عام 1991، أدى رد الفعل الحمائي لقيادة صدام الى تعميق عملية النخر، عندما تقوقع سنياً-عربياً، متخلياً عن علمانية البعث القومية كتغطية فكرية، مقابل القومية الكردية الذاهبة إلى حماية غربية. وكان أن احتكر الفكر السني الخام المجال العام. يقول الشيخ السلفي سلمان الظفيري: «بعد دخول حرب الكويت وفرض الحصار (...) أورقت سيقان الدعوة فتم إنشاء كلية الشريعة المسائية، وإنشاء معهد للأئمة والخطباء، ثم كلية العلوم الإسلامية. وزاد عدد المساجد في العراق إلى أكثر من ستة آلاف مسجد، وفي بغداد وحدها أكثر من 3500 مسجد». إمكانية انبثاق استجابة معافاة بنّاءة مستقبلياً لاحتياجات مرحلة ما بعد الغزو، مقاومة كانت أو نظاماً ديموقراطياً، من مجتمع بهذه الخصائص، كانت مستحيلة، لاسيما في ظل الإفرازات السلبية لسلطة اليمين المحافظ، فكما الاصولية الاسلامية، بضيق مجال رؤيتها وفعلها، أصرت الأصولية المسيحية ممثَّلة بإدارة بوش، على الانفراد بأمر العراق بقرار أممي يعطيها صفة المحتل، ثم طبقت عماءً التجربة الغربية بعد هزيمة المانيا في الحرب العالمية الثانية، والمسماة ب «استئصال النازية»، دون مراعاة للاختلاف الكبير في تركيبة البلدين. وكانت النتيجة أن قانون اجتثاث البعث أدى الى إلغاء أجهزة الدولة المدنية والعسكرية بدلاً من تطهيرها فقط. كان طبيعياً ان يتشكل فضاء الحرية بعد الغزو على صورة الهيكل العراقي المنخور سياسة ومقاومة مشوهتين، مرآة لتراجعات سابقة ومترسخة في عراقية العراقيين هيأت الشيعة منهم كحاضنة لاحزاب طائفية «ضد-سنية» قبلت بالتعاون مع اميركا في المسار السياسي، وهيأت السنة منهم كبيئة «ضد-شيعية» كحاضنة ل «الجبهة العالمية لمحاربة اليهود والصليبيين» أو القاعدة، لا شأن لها بالتحرير الوطني أو الديموقراطية. وعندما أقدمت الاخيرة في شباط (فبراير) 2006 على تفجير مرقدي اثنين من أئمة الشيعه في مدينة سامراء، انجرف الشيعة الى العنف المسلح وسقطت البلاد في أتون حرب أهلية استمرت حتى 2008، تاهت فيها أنباء العمليات الموجهة ضد قوات الاحتلال وسط شلال من انباء الوحشيات الطائفية المتبادلة. انفلات العنف عراقياً داخلَه تصاعد ضغط المجتمع المدني الاميركي فضحاً وتعرية لإخفافات سلطة الاحتلال، من أبو غريب إلى الهدر المالي، من تحليلات نعوم شومسكي إلى كاريكاتيرات مايكل مور، حتى أطاح بأبرز ممثلي اليمين المحافظ، وزير الدفاع دونالد رمسفيلد، في أواخر 2006. بعدها تدرج الموقف الاميركي الى استراتيجية استيعاب السنّة، فانخفضت درجة العنف من مستوى الحرب الاهلية الى مستوى حالة العنف واللاعنف الراهنة. وبينما يتركز الاهتمام الآن على تداعيات الانسحاب الأميركي الرسمي من العراق، فالعنصر الحاسم في ترجيح الخيار الديموقراطي سيكون مدى ازدهار الربيع العربي. ويجدر الانتباه إلى أن الدور الرئيسي لعرب العراق سنة وشيعة في إهدار الفرصة التي أوجدها الغزو، عَرَضاً وليس قصداً، لافتتاح الربيع العربي منذ 2003، لا يعود إلى خصائص وراثية عراقية، وإنما إلى ما بدا ثقافة متوارثة عربياً على مدى نصف قرن بقيت فيه مجتمعات ما قبل الاستنارة العربية تنتج الشموليات التقليدية والحديثة، أنظمةً وأيديولوجيات، ما جعل الربيع العربي مفاجأة كاملة الدسم. فهل كان على العراقيين انتظار «الذي يأتي ولا يأتي» لكي لا يقال عنهم، كما يقال عن الشعب الليبي الآن وسيقال عن الشعبين السوري واليمني وغيرهما غداً، إنهم استدعوا التدخل الخارجي وتعاونوا مع الاستكبار والامبريالية؟ سؤال برسم الرمادي بدلاً من الأبيض والأسود في تقييم العلاقة الأميركية-العراقية. * كاتب سوداني