حدّد علماء الفيزياء في جامعة براون الإنكليزية الحدود القصوى لكتلة «المادة السوداء» Dark Mater، التي تتألف من جسيمات غامضة بالنسبة الى العلوم حاضراً، مشيرين إلى أنها تؤلّف ربع الكون تقريباً. ولم يتعرّف العلماء الى «المادة السوداء» إلا قبل سنوات قليلة، كما أنهم لم يتوصلوا بعد لتحديد تركيبتها وتفاعلها مع بقية مُكوّنات الكون وقواه. ومن الأشياء التي ينسبها العلماء الى هذه المادة، قدرتها على المساهمة في التباعد بين أرجاء الكون، وهي الظاهرة التي تُسمى «تمدّد الكون» Cosmic Expansion. وأفاد بحّاثة نشروا دراسة حديثة أخيراً عن هذا الأمر في مجلة «فيزيكال ريفيو لاترز» Physical Review Letters العلمية، بأن الجسيمات الأولى التي تكوّن المادة السوداء، تملك كتلة تفوق 40 غيغاإلكترون فولت. ويستعمل العلماء مقياس «غيغاإلكترون فولت» لقياس كتلة الأشياء الفائقة الصغر في الذرّات. على غرار الكوارك بقول أكثر تحديداً، أعلن هؤلاء العلماء أنه إذا كانت هذه المادة متواجدة فعلياً في الكون، فإنهم يعتقدون أن الرقم السابق يمثّل الحدود القصوى لكتلتها، بموجب ما يعرفه العلم عن هذا الأمر الى الآن. وفي بحث نشر مطالع كانون الأول (ديسمبر) 2011 في «فيزيكال ريفيو لاترز»، بيّن فريق علمي قاده سافاس كوشياباس الأستاذ المساعد في جامعة براون بالتعاون مع تلميذه أليكس غرينغر - سميث، بأن كتلة المادة السوداء يجب أن تفوق 40 غيغا إلكترون فولت، لأن هذا قد يفسر إمكان وجودها إلى جانب مُكوّنات مثل الكوارك Quark الثقيل الوزن نسبياً. ويعتبر الكوارك اللبنة الأولى التي تنبني منها مكوّنات الذرّة. وإذ استخدم فريق كوشياباس البيانات التي تُجمَع عبر أداة ذريّة في «مرصد فيرمي الفضائي لأشعة غاما»، إضافة الى مقاربة إحصائية جديدة، فقد استطاع أن يحدّد كتلة جزيئات «المادة السوداء». وقد ركّز الفريق على رصد الطريقة التي تظهر فيها النجوم في أطراف مجرة «درب التبانة»، للوصول الى هذا الرقم. والطريف أن هذا التحديد، جاء بعد أيام من تجربة علمية جرت في «مُصادم هادرون الكبير»، بيّنت أن أحد أصغر الجسيمات في الكون، واسمه «بوزون هيغز»، يملك كتلة لا تقل عن 123 غيغا إلكترون فولت، ولا تزيد عن 142 غيغا إلكترون فولت. وأوضح كوشياباس أن ما توصل إليه الفريق يشير إلى أن الجسيم الذي يملك كتلة أقل من 40 غيغا إلكترون فولت، لا يمكنه أن يكون إحدى جزيئات المادة السوداء. ويُشار إلى أن هذه القياسات التي سجّلت عبر مراقبة المجرات، تتمتع بأهمية كبيرة، لكنها تثير شكوكاً أيضاً حول نتائج صدرت أخيراً عن دراسات متقاطعة عن المادة السوداء تضمّنت إجراء تجارب سرية. وأشارت نتائج هذه الدراسات إلى وجود مادة سوداء بكتل تتراوح بين 7 و12 غيغا إلكترون فولت، أي أنها أدنى كثيراً من الحدود التي توصل إليها فريق جامعة براون. وأضاف كوشياباس: «إذا سلّمنا جدلاً بأن كتلة جزيئة المادة السوداء أدنى من 40 غيغا إلكترون فولت، يعني ذلك أن حجم هذه المادة في الكون حالياً كبير لدرجة أن الكون لن يكون في حال تمدّد بالمعدل المتسارع الذي يُلاحظه العلماء راهناً»، مشيراً إلى جائزة نوبل للفيزياء التي مُنِحَت عام 2011 للاكتشاف الذي أثبت أن وتيرة تمدّد الكون تتسارع باطّراد. وفي سياق متصل، توصلت تجربة مشتركة بين جامعة براون وبحّاثة في مختبر «فيرمي-لاب» العلمي العالمي، إلى نتائج مماثلة، لكنها استخدمت منهجية مختلفة. ويهتم مختبر «فيرمي» بالفيزياء الذرية، وهو الذي أنتج القنبلة الذرية في أواخر الحرب العالمية الثانية. وفي وقت قريب، تنشر مجلة «فيزيكال روفيو لاترز» البحث المشترك بين جامعة «براون» و «فيرمي-لاب». معظم الكون غائب لأخذ فكرة أوسع عن هذا الموضوع، يكفي القول بأن علماء الفيزياء يظنون حاضراً بأن كل ما يمكن رؤيته من كواكب ونجوم ومجرات وسواها، يشكّل 4 في المئة من الكون. وكذلك تشير ملاحظات اختصاصيي الفيزياء الذرية إلى أن المادة السوداء تمثل قرابة 23 في المئة من الكون، فيما الجزء الباقي يتكوّن من الطاقة السوداء، وهي القوة التي يُعتَقَد أنها تتسبّب بتوسع الكون المتسارع. والمشكلة قوامها أن المادة السوداء والطاقة السوداء لا تُصدران أشعة إلكترومغناطيسية مثل النجوم والكواكب، ولا يمكن «رؤيتهما» إلا عبر تأثيراتهما، خصوصاً ما تحدثانه من آثار في عمل قوة الجاذبية. وبسبب خفائها وثقل مكوّناتها، يميل علماء كُثُر إلى الاشتباه بأن المادة السوداء عبارة عن جزيئات كبيرة ضعيفة التفاعل، ما يجعل دراستها أمراً صعباً جداً. وما يعرفه علماء الفيزياء حاضراً هو أنه عندما تصطدم جزيئات كبيرة ضعيفة التفاعل بجزيئات مُضادة لها (وهذه عملية تُعرَف باسم «الاندثار» أو «التلاشي»)، تصدر مُخلّفات عن التصادم هي بمعظمها جزيئات كوارك ثقيلة وجزيئات ليبتون. كما يعرف العلماء أنه عندما يصطدم ال «كوراك» وال «كوارك المُضادّ» Anti Quark، ينتج دفق من جسيمات، لكنه يحتوي على الفوتونات التي تؤلّف الضوء. وفي تجربة جامعة براون، عمد كوشياباس وغيرينغر-سميث أساساً إلى السير بعكس التفاعل التسلسلي للاندثار، فاختارا سبع مجرات قزمة تُظهر مراقبتها أنها مليئة بالمادة السوداء، بمعنى أنه ليس من الممكن تفسير حركة نجومها بالاستناد الى كتلتها وحدها. ولا تحتوي هذه المجرات القزمة على غاز الهيدروجين وغيره من المواد الاعتيادية إلى حد كبير، ما يعني أنها توفر خلفية خالية تتيح مراقبة المادة السوداء وتأثيرها بشكل أفضل. وقد أشار كوشياباس إلى هذه الميزة بقوله: «إن نسبة الإشارة أعلى كثيراً من نسبة التشويش. إن هذه المجرّات القزمة هي أنظمة نظيفة حقاً». وحلّل الباحثان بيانات «أشعة غاما» التي جمعها «مرصد فيرمي» في السنوات الثلاث الماضية عبر رصد مجموعة من مجرّات قزمة. وتوصّلوا الى تحديد عدد الفوتونات في هذه المجرّات. واستناداً إلى عدد الفوتونات، تمكن باحثا جامعة براون من تحديد معدل إنتاج الكوارك، ما أتاح لهما معرفة حدود كتلة جزيئات المادة السوداء والمعدل الذي تندثر به. ولفت كوشياباس إلى أنها المرة الأولى التي أُجريت تجربة من هذا النوع، مع استبعاد الجزيئات الكبيرة الضعيفة التفاعل، التي ربما تكون هي المُكوّن فعلياً لغالبية المادة السوداء في الكون.