قرر الرئيس باراك أوباما المطالبة بتجميد تام للاستيطان الإسرائيلي، كما سبق ودعت إليه خطة خارطة الطريق للسلام في الشرق الأوسط في العام 2003، وهو قرار يُعتبر المدخل لمقاربته المُغايرة لعملية السلام بين إسرائيل والفلسطينيين. وقد واجه قراره هذا الانتقاد ليس من قبل رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو وحكومته ومن المحافظين الجدد الأميركيين المحبطين أمثال اليوت أبرامز فحسب، بل أيضاً من مسؤولين عملوا في إدارة بوش، على غرار أرون ميلر، كانوا من منتقدي تساهل هذه الإدارة حيال موضوع المستوطنات. يتحجج المنتقدون بأنه، وبكل بساطة، يستحيل على حكومة إسرائيلية تجميد البناء في المستوطنات ما لم يكن في إطار اتفاق سلام شامل. وهم يعتبرون أنه لا بدّ من أن يشكل هذا الهدف الاستراتيجي محور ديبلوماسية إدارة أوباما، بدلاً من مسألة المستوطنات الثانوية. الحجّة تبدو منطقية في الظاهر، ولكنها تسير في الاتجاه الخاطئ في الاساس، وذلك لأسباب عدّة. فمقاربة أوباما تختلف عن مقاربة الإدارات الأميركية السابقة لناحية إدراكه أن السماح للحكومات الإسرائيلية بإعادة تحديد المفردات المستخدمة في عملية السلام، بشكل يؤدي إلى نقيض المعنى البسيط لهذه المفردات، من شأنه القضاء على اي امل بإنهاء الصراع القائم. وبالتالي، يدرك أوباما أن إصرار نتنياهو على أن أي تجميد للاستيطان لا بدّ أن يحافظ على الحق بالبناء لاستيعاب «النمو الطبيعي» للسكان، هو بمثابة خداع مدروس يهدف إلى تغطية مسألة بناء المستوطنات إلى أبعد من ذلك «النمو الطبيعي»، وذلك للحيلولة، وبشكل دائم، دون إمكانية قيام دولة فلسطينية مترابطة وقابلة للحياة. وأوباما يعي ذلك لأن هذا هو النمط الذي ساد حتى الآن في ظلّ حكومات حزب الليكود في السابق وحزب كاديما وحتى في ظلّ حكومات يقودها حزب العمل. إذا اعتبرنا ان قرار نتنياهو الغريب بتلبية طلب أوباما والقبول بقيام دولة فلسطينية هو التنازل الاكثر أهمية والأكثر «استراتيجية» من مسألة المستوطنات التي يعتبر منتقدو أوباما أنها مسألة ثانوية، فالسؤال الذي يُطرح هو: لماذا يشنّ الآن نتنياهو هجوماً على محمود عباس بسبب قرار الرئيس الفلسطيني تأجيل استئناف محادثات السلام الرامية إلى قيام دولة فلسطينية، بينما كان نتنياهو هو الذي حارب بشدة وبنجاح جهود آرييل شارون للحؤول دون رفض الليكود رسمياً قيام دولة فلسطين؟ ولنأخذ بالاعتبار الظاهرة السياسية الغريبة المتمثلة في أن المستوطنين وشركاء نتنياهو في التحالف القومي المتطرف، لم يعمدوا الى مهاجمة قراره، بل تقبّلوه بلامبالاة واضحة. والجواب عن هذا السؤال لم يعد خفياً بالنسبة لمعظم الإسرائيليين، حتى ولو أن غالبية أعضاء الكونغرس الأميركي لم يستوعبوه بعد. فالإسرائيليون يدركون أن إعادة إطلاق عملية السلام التي لم تحقّق فعلياً أي نتيجة، طوال 15 عاماً، لا تشكّل تهديداً للوضع الراهن. وفي الواقع، إن تمثيلية محادثات السلام وفّرت الغطاء الذي كانت الحكومات الإسرائيلية بحاجة إليه لتتمكّن من الظهور بمظهر الساعية إلى عقد اتفاق سلام، في الوقت الذي كانت تستمر في توسيع المشروع الاستيطاني إلى حدّ لن يسمح أبداً بقيام دولة فلسطينية. أضف إلى ذلك أن من غير الصحيح ما يقوله منتقدو أوباما من أنّ الحكومات الاسرائيلية لا تستطيع الوقوف في وجه من يعارضون تجميد البناء في المستوطنات الذي لا يشمل النمو الطبيعي. انّه ادّعاء سخيف. وأوضح أمنون روبنشتاين، وهو وزير سابق في العديد من الحكومات الإسرائيلية، أن الحكومات الإسرائيلية تطبّق بصورة منتظمة «قوانين تعسفيّة» لإدارة البناء غير الشرعي ضمن حدود اسرائيل. وإذا طلب مواطن اسرائيلي يقيم في تل أبيب أو حيفا وتشهد عائلته «نمواً طبيعياً» بإعفائه من هذه القوانين، سيُنصح، وبأسلوب فظِّ بعض الشيء، بالبحث عن سكن مناسب أكثر في مكان آخر من المدينة أو حتى خارج المدينة ذاتها. ولهذا السبب لا يمكن تبرير لماذا لا يُمكن أن يُقال للإسرائيليين المقيمين في الأراضي المحتلة الشيء ذاته. ولكن قد يكون السبب الأكبر الذي يكمن وراء قرار إدارة أوباما البدء بالضغط لإحداث خرق في محادثات السلام التي بلغت حائطاً مسدوداً باستعمال مسألة النشاط الاستيطاني غير الشرعي الذي تقوم به إسرائيل، هو قناعة الادارة بأنها تستطيع بذلك الاحتفاظ بدعم الكونغرس في مواجهة حكومة نتنياهو في هذه المسألة، ودحض النظرية التقليدية في واشنطن القائلة بأن اللوبي الإسرائيلي لا يُقهر حتّى عندما يسعى إلى الدفاع عما يتعذّر الدفاع عنه. وإذا تحقّقت هذه السابقة، تعتبر إدارة أوباما أنها ستصبح في موقع قويّ للغاية، الأمر الذي يمكّنها من السير قدُماً في معركتها مع نتنياهو وحكومته، المتعلّقة بالمسائل المزمنة، بما فيها مسألة الحدود وتقاسم القدس. ثمة مجموعة تمثّل الحزبين الديموقراطي والجمهوري وتتألّف من مسؤولين حكوميين كبار سابقين، وصفتهم صحيفة «النيويورك تايمز» بأنهم من كبار وجوه السياسة الخارجية الاميركية، قدمت وثيقة الى الرئيس أوباما، في تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي، أشارت فيها إلى أنّ وضع حدّ لتوسيع المستوطنات وبدء المفاوضات بين الأطراف لن يسفرا عن شيء أكثر مما نجم عن المفاوضات السابقة، إلا إذا قدّمت إدارة أوباما للأطراف إطارا واضحاً لمفاوضات ترتكز على قرارات الأممالمتحدة والقانون الدولي والاتفاقات المسبقة الموقعة بين إسرائيل والسلطة الفلسطينية. وفي غياب هذا النوع من القيادة الأميركية المتميّزة بالتصميم الدائم، سيصبح الانتصار في المعركة الدائرة حول الشأن الاستيطاني فارغاً. وبالتأكيد، يدرك الرئيس أوباما ذلك، وهذا ما يدعو الى الأمل بأنه سوف يستمر في مثابرته على هذا الطريق الذي رسمه بنجاح. * مدير مشروع «الولاياتالمتحدة/ الشرق الأوسط» في مجلس العلاقات الخارجية - نيويورك، وأستاذ زائر في معهد الدراسات الشرقية والأفريقية - جامعة لندن.