المنصف المرزوقي رئيساً لتونس. أقسم ويده على قلبه خوف أن تبقى الثورة مستمرة ويألف الناس الشارع خارج بيوتهم ومراكز أعمالهم. بكى حين تذكر الشهداء وحذّر من عبثية الاعتصامات داعياً الى العمل في ظل ادارة سياسية جديدة، تجمعه وما يمثل بحزب النهضة وإسلامييه. طبيب الأعصاب المعارض الذي سجن مرات وخضع للتحقيق كثيراً في أقبية زين العابدين بن علي، يعتبر الرئاسة بداية تجربة لحكم ارتضاها التونسيون عبر انتخابات حرة تاركين لأهل الائتلاف الحاكم أن يتوافقوا على ما ينفع الناس قبل أن يحاولوا تطبيق نظريات كتبوها من موقع النقد خارج الحكم. في مطلع عام 2007 التقت «الحياة» المنصف المرزوقي في باريس وأجرت مقابلة في سياق مقابلات مع أبرز المفكرين العرب. والمرزوقي (المولود عام 1945) دكتور في الطب يتميز بحيوية المناضل الدائم من أجل حقوق الإنسان، مع حكمة الطبيب ودقته في التشخيص. وضع مؤلفات عدة في مجال الصحة العامة، وعلاقة القضايا الصحية بالحياة الاجتماعية، غير أن شهرته بدأت قبل ربع قرن وأكثر حين ترأس الجمعية التونسية لحقوق الانسان، ما جعله عرضة لمطاردة السلطات الامنية في بلده، بالتوازي مع تكوينه، ضمن اطار كلية الطب في الجامعة التونسية، جيلاً من الباحثين الذين اهتموا، تحت إشرافه، بالامراض الناجمة عن الظلم الاجتماعي والفقر، وكذلك بأمراض الاطفال ووفياتهم. وأثمر هذا العمل، طبياً وفكرياً، انطلاقاً من كلية الطب في مدينة سوسة. غير ان هذا كله لم يحمه من الطرد والملاحقة، ما اضطره الى الاقامة بين حين وآخر في فرنسا، يخوض انطلاقاً منها معركته الدائمة من اجل حقوق الانسان. من أقواله في المقابلة: - المجتمع العربي تقدم شوطاً كبيراً في استقلاله. بقي القضاء المدجن والانتخابات المزوّرة. لكن آخر قلاع الاستبداد هذه آيلة الى السقوط، طال الزمان أو قصر. إذاً، ما أقوله لنفسي في أوقات الإحباط: ثمة شيء يتحرك ولكن ببطء وبزمن غير زمنك. قد لا أعيش لأرى أمتنا تتخبط في مشاكل الديموقراطية بدل مشاكل الاستبداد، لكنني أشعر بأنني ساهمت في الجهد الجماعي وهذا يعيد إليّ معنوياتي. - علاقتنا مع الغرب علاقة عصابية (Nevrotique) والبرء منها يتطلب التشبع ببعض البديهيات. هناك ثلاثة مستويات من الغرب: غرب الأنظمة وهو غرب قبيح، لنا الحق في مواجهته لأنه غرب الاستعمار في السابق وغرب دعم الديكتاتوريات في الحاضر. وهناك غرب القيم والتكنولوجيا، وهذا علينا ان نتعلم منه كما تعلّم منا. وهناك غرب المجتمعات المدنية وهذا غربٌ حليف لنا وصديق، من الغباء وضعه في السلة ذاتها مع غرب الأنظمة. - مشكلة المثقفين، ولا أتحدث هنا عن الأكاديميين ولا عن أبواق السلطة، هي شعورهم بالذنب. كل من تجند لإيديولوجية ما، شاهد أين وصلت وأين أوصلت. ثمة إذاً خوف مفهوم من التورط في الغلطة ذاتها. باستثناء بعض المثقفين الإسلاميين الذين يكررون أخطاء كل من تجندوا للماركسية والقومية العربية والوطنية... الخ. دور المثقف ليس ان يكون مبرر الفعل السياسي، وإنما هو من يقوّمه من موقع الأهداف التي سنّها لنفسه. ربما تقول لي: أنت أيضاً تنهى عن المنكر وتأتيه بما أنك مجند للدعوة الى الديموقراطية وحقوق الإنسان. وردّي انني تعاملت في كتاب «عن أي ديموقراطية تتحدثون» وفي كتاب «الإنسان الحرام» بكثير من الحزم والمراجعة، حتى مع الأفكار التي أدافع عنها. دور المثقف ان يحترز من أفكاره قبل ان يحترز من أفكار الآخرين... دوره ان يبقى العين التي لا تنام عندما تنام كل العيون لئلا تصبح أفكار التحرر أدوات تجدد الاستعباد. - نحن أمة أمية لا تقرأ ولا تكتب، على رغم ان كتابها المقدس اسمه القرآن الكريم وأول أمر صدر للرسول (صلّى الله عليه وسلم) هو عبارة أقرأ. العرب يخصصون عشرين دقيقة سنوياً للقراءة ونحن ننتج من الكتب أقل ما تنتج اليونان. تقول: عدنا للجلد الذاتي. أبداً، إنه واقع ندين به للاستبداد الذي حاصر المبدعين وحاصر الفكر ومنع الحوار والجدل، وتتبع الكتاب وأغلق الحدود في وجه الكتاب العربي. لهذا، تتشكل الذهنيات من الفضائيات سلباً وإيجاباً. الإيجابي هو وصول المعلومات وتشبع العرب بمفهوم الحوار، ولو كان افتراضياً. الخوف هو ان ينمي عصر الإعلام هذا السلبية. لكن قناعتي ان عصر الصدمة بالصورة والاستهلاك السريع سيمر، وأن الكتابة والفكر عائدان. - ثمة فرق كبير، خلافاً لما يتوهم البعض وما يخادع به البعض الآخر، بين الدولة الليبرالية والدولة الديموقراطية. فالأخيرة هي دولة الخدمات التعليمية والصحية والضمان الاجتماعي، والحريات الفردية والجماعية التي لا تراقبها عشرات وكالات الاستخبارات والتجسس. هي دولة ترتبط بالمجتمع بعلاقات تعاون، لا تخشاه ولا يخشاها، ناهيك عن كونها تخضع للقانون الدولي ولا تعتدي على أحد. شتان بين هذه الدولة التي تكتمل خصائصها في البلدان الاسكندينافية ودولة ليبرالية مثل أميركا، لا تعنيها الحقوق الاقتصادية والاجتماعية للغالبية في شيء، ورفضت دوماً إبرام المواثيق الدولية للبيئة او لحقوق الانسان او لتتبع جرائم الحرب. وتصدت لمبدأ التجارة العادلة لإنقاذ ثلث الانسانية من الموت جوعاً، وتتدخل عسكرياً في كل مكان من الارض للحفاظ على الحلف المتين بين العصابات المحلية وشركاتها العملاقة لمواصلة استغلال العالم وتدميره. ان زرع دول ليبرالية محلية تحت ستار الديموقراطية يهدف الى ان تستخدمها الدولة المركزية كوكالات محلية لتصريف شؤونها ومصالحها. لكن هذه السياسة تبدو الآن مرفوضة داخل الدولة المركزية من الاميركيين أنفسهم الذين يدركون يوماً بعد يوم ان تلاقي مصالحهم مع مصالح النومنكلاتورا الليبرالية لا يقل كذباً وهشاشة عن تلاقي مصالح الشعب الروسي مع مصالح النومنكلاتورا الشيوعية يوم كان يرزح تحت الفاشية الحمراء. فلماذا نقبل نحن بالأمر، خصوصاً ان من سيسهرون على ديموقراطيتنا الممنوحة هم جلادونا في الماضي القريب؟ قلّ من يتذكر اننا جربنا في عدد من البلدان العربية قبل منتصف القرن المنقضي هذا النموذج المتمثل في نواة صلبة من الليبرالية الاقتصادية، يغلفها نظام برلماني قوامه صراع عبثي بين الاحزاب والاشخاص على المكاسب. قل من يتذكر ان عيوب هذا النموذج هي التي ولدت الانقلابات العسكرية ضد انظمة كانت عميلة للخارج وعاملة على نشر الظلم الاجتماعي في الداخل. ولأن الاسباب ذاتها تولد النتائج ذاتها، من حقنا ان نفترض انه لو استطاعت الادارة الاميركية فرض مثل هذه الديموقراطية، لما كانت الا مرحلة عابرة بين ديكتاتوريين. - آن الاوان للديموقراطيين العرب ان يبلوروا مشروعهم وليس فقط الاكتفاء برفض المشروع الاجنبي. نعم، آن الاوان ليكون لنا مشروع قومي ورؤيا لديموقراطية نفرضها على انفسنا ولا يفرضها علينا أي وصيّ. كل هذا حتى لا تصادر الاحلام مجدداً، حتى لا يتمخض الجبل فيولّد خازوقاً، حتى لا تصبح الديموقراطية الممنوحة تغطية على الاستبداد الجديد ومدخلاً الى عودة الاستبداد القديم.