لا يكف السيد بشير عيسى عن تذكيرنا في مقالاته المنشورة في هذه الصفحة من «الحياة» بما لم ننسه للحظة، أي بالإسلاميين، وآخرها مقالته المنشورة في 13 كانون الثاني (يناير) الجاري عن الدين وثورات «الربيع العربي»، وبشبح هؤلاء الذي يهدد ببدء انتزاع مكاسب «الربيع العربي». هذا تخوف طبيعي بدأت إرهاصاته تتبدى للعيان في تونس ومصر، وربما في باقي البلدان التي شهدت انتفاضات مطالبة بالحرية والكرامة وإسقاط الأنظمة. لكن، يبدو لنا أن الحكم لا يزال مبكراً على هذا الموضوع لسببين: أولهما، أن الانتقال من مجتمع فاقد للسياسة ومدمَّر البنية الفوقية كحال المجتمعات العربية لن يكون على طبق من ذهب، وما من بديل كالذي يحاول السيد بشير إشاعة مناخات التشاؤم بإمكانية اجتراحه، تاركاً لتخوفه من الغول الإسلامي أن يقدم أحكاماً واستنتاجات مسبقة غصّت بها مقالته. وثانيهما، أن وصول التيارات الإسلامية إلى الحكم في ظل غياب إصلاح لاهوتي جذري ومصالحة للإسلام مع العصر، وتالياً مع الحداثة، ينذر بالمزيد من الاحترابات والعنف المكبوت أو المعلن، وهو ما جافاه الكاتب لجهة سطحية نظرته وعدم دعوته إلى إصلاح ديني عميق، وهو يصور الإسلام كحتمية تقطف ثمرة دماء شعوب دفعت الكثير منذ حوالى عام وحتى اليوم على طريق رسم حريتها والخلاص من طغاتها. لا كلام عن إسلام ليّن في مجتمعات إسلامية، والإسلام الصلب هو الحجة التاريخية التي تكفي علمانيين من أمثال من أساجله الآن شر القتال والاكتفاء بالتنظير من علٍ، وهو الذي يتحدث في نصه عن «ثورات ما يسمى «الربيع العربي» والتي تحاول من خلالها بعض التيارات السياسية الإبقاء على الشريعة الإسلامية كمصدر أساسي ورئيسي في دساتيرها». ولما يسمى ب «الربيع العربي» قصة في مقالته وهي الموضوعة بين هلالين والمسبوقة دوماً ب «ما يسمى». ذلك أن «الربيع العربي» إما أن يكون تحققاً فعلياً لتنظيرات ما قرأناه من كتب وببساطة ولذة كشهد العسل، أو أنه لن يكون ربيعاً على ما يلمّح الكاتب. أحكام مسبقة، تنافر في الأفكار، فلا يخرج المرء بفكرة واضحة من المقال لا بخصوص وضع الإسلام السياسي لاحقاً، وهو خوف مشروع لا يحل بتبسيط كالذي قرأناه في مقالة الكاتب، ولا بخصوص كيفية أو ضرورة عمل المثقف العلماني في زمن التغيرات العاصفة التي نشهد، والواجب الذي يحتم على هذا المثقف المشاركة في رسم لوحة المشهد في البلد المعني بالتغيير، اللهم باستثناء توقعاته السحرية وحكمه المطلق بأن «ثمة شخصيات ورموزاً ليبرالية يؤتى بها لتكون واجهة مرحلية لمعارضة إسلامية يرضى عنها الغرب، وهو ما لا يحل الأزمة بقدر ما يخفيها». هنالك تخبط وضياع في النص بين المراحل الانتقالية وصعوباتها المحتملة والطبيعية من جهة، وبين المستقبل الذي تستحقه شعوب المنطقة على علاتها وقصورها في الديموقراطية والتقاليد السياسية المدنية، وهو ما أطلق عليه السيد عيسى رصاصة الرحمة، ناسياً أن السياسة والعودة إليها ليستا بالأمر السهل بعد كل ذلك التعتيم والقسر والعسف، وفي ذلك يقول: «من يطالب بالديموقراطية الآن عليه أن يتعرف إليها أولاً». هكذا، يبدو أن دعاة التغيير بنخبهم وبُسطائهم بحاجة إلى دورة وشهادة في العلوم السياسية والاجتماعية وفلسفة التنوير قبل أن يصرخوا صرختهم: «الشعب يريد إسقاط النظام»، وهذا منطق إن دل على شيء، فعلى نزعة نخبوية يفترض أن تنحو بالمثقف لأن يحاول بمحموله المعرفي وثقافته الرفيعة المساهمة في تطوير تمرينات تؤسس لفكر ووعي جديد انطلاقاً من دعمه للحراك العربي، أي لما يترفع عيسى عن تسميته ب «الربيع»، لا أن يقدم دروساً لأهالي الضحايا والمنكوبين والمفقودين والمعتقلين والمشوهين وذويهم في أسس دراسة فن الديموقراطية، ناسياً أنها تتويج لمسار وليست أول المسار، وهي ثمرة وليست بذرة، ثمرة تحرر ومسيرة طويلة تبدأ بإسقاط الأنظمة الاستبدادية مروراً بأنظمة تعددية ليست ديموقراطية بالضرورة، ومراحل انتقالية صعبة بإسلاميين وغير إسلاميين. والإسقاط هذا للأنظمة هو إسقاط عبر الشارع حتماً، لا عبر التنظيرات التي تنحاز إلى الأحكام الجاهزة والمقولبة. لكنْ من يدري، فربما يكون في «اجتماع أكثر من ثلاثين حزباً وحركة من القوى الليبرالية والعلمانية الوطنية في مصر، ومطالبتها بوثيقة فوق دستورية» حافز للمثقفين العرب ليخوضوا غمار العملية الثقافية والسياسية التي أتاحتها تضحيات من لم يتعرفوا بعد الى معنى الديموقراطية ويفهموها، وبين هؤلاء مثقفون ليبراليون ويساريون علمانيون محترمون اقترنت تنظيراتهم بالعمل الميداني في الشارع بعكس غيرهم، بدلاً من البكاء والمراوحة في المكان خوفاً من إسلام سياسي لست معجباً وداعياً له بطبيعة الحال، بحكم موقعي وانتمائي الفكري إلى الدائرة العلمانية. يمكن أن يفهم المرء لُعب السياسة وبعدها عن الطوبى الموجودة في ذهنية «المثقف»، لكنْ أن يتم إسقاط تلك الطوبى لتمسي عائقاً، وإن نظرياً، أمام فهم الواقع على حقيقته، فذلك يستوي كلام حق يراد به باطل. إن الانقسام في صفوف المعارضة السورية والخلاف على شكل الدولة وطابعها المستقبلي لا يلغيان أن بومة مينرفا قد حطت بدورها بين سطور بشير عيسى وكتاباته الرمادية، وأي دليل على ذلك إلا نص سابق لنصه الأخير في جريدة «الحياة»، يضع فيه الكرة في ملعب النظام السوري باعتباره لا يزال يملك حلاً لوأد احتمالات الحرب الأهلية، بعد عشرة أشهر يعرف عيسى جيداً ما فعله النظام فيها بالبلاد والعباد. وليعذرني الكاتب على حكمي المسبق والحاسم وغير القابل للنقاش بحق النظام السوري الذي لم ولن يكون إلا بوابة عنف واستبداد، لا بوابة إصلاح وتخفيف للاحتقان السياسي. أخيراً، نذكّر السيد بشير بقول لأحد عتاة العلمانية في أوروبا: تاريخنا ليس شيفرتنا الوراثية... وما من طبع قارّ وغير قابل للتطوير لدى البشر على مدى الزمن. * كاتب سوري